كاتب ومقال

رداء أحمر داكن

أحكم يونس أفندي رابطة عنقه وهو ينظر لنفسه في المرآة ويلقي نظرة أخيرة على هيئته قبل الخروج، لا يستهويه حضور تلك الحفلات والمناسبات الاجتماعية، لكن لا مفر من الذهاب وحضور حفل صاحب العمل جلال باشا، المصلحة تُحتم عليه فعل ذلك وقبول الدعوة بل وتقديم هدية فاخرة أيضًا..

تأخر في تدرجه الوظيفي بشكل أصبح ملحوظ ومحط سخرية من الجميع، صديقه المقرب حسانين أرجع ذلك لعزوفه عن الحياة الاجتماعية ووجوده الدائم في الظل بعيدًا عن أعين جلال باشا ومعاونيه، حتى أصبح منسيًا طوال الوقت ولم يحظى بترقية واحدة منذ عدة سنوات..

حياة الظل ضمنت له الهدوء والبعد عن الصراعات والمؤامرات، لكنها تسببت في جمود حياته وضياع عشرات الفرص منه وفقد أغلب حقوقه المستحقة وذهابها لهؤلاء المهرجين أصحاب النكات والدعابات المضحكة في حفلات جلال باشا الأسبوعية..

الحفل صاخب ومزدحم في حديقة القصر والخدم يتحركون يمينًا ويسارًا يحملون كؤوس الويسكي والشمبانيا من الأنواع الفاخرة، دخل بصحبة حسانين يكاد يتعلق بذراعه من شدة توتره وارتباكه، حتى حدث ما نبه حسانين عليه ألف مرة ووجد نفسه يقف وحيدًا منزويًا بدونه..

جلال باشا يقف وسط دائرة كبيرة من كبار الموظفين وزوجاتهم بفساتينهم اللامعة البراقة، الضحك واضح ومسموع رغم المسافة الطويلة بينه وبينهم، زفر بقلق كبير وهو يراجع تعليمات صديقه إليه، أن يتوقف عن خجله ويحاول التودد للباشا..

كمن يحرك ساقيه في الثلج، إتخذ قراره واتجه نحو الدائرة المزدحمة بالجميلات، مد يده بالهدية للباشا وهو يُحدثه بتلعثم وتداخل الألفاظ بعضها البعض ولولا صوت الموسيقى المرتفع لسمع الواقفون جملته العشوائية وضحكوا عليه لأخر الحفل، لم يجد من الباشا سوى إبتسامة مصطنعة وعاد لإكمال حديثه مع إحدى الجميلات وهو يضحك بصوت مرتفع بأداء مسرحي مؤكدًا بذلك للجميع أنه الباشا صاحب الوليمة ومالك الحظ لأزواج الجميلات..

انسحب يونس وعاد يقف بعيدًا منزويًا مرة أخرى وعلى وجهه إبتسامة شماتة لحسانين، خطته فاشة ولم تنجح في جعل الباشا ينتبه إليه ولم يجني من حضور الحفل غير خسارة نصف راتبه ثمن هدية لم تلفت نظر الباشا أكثر من ثانية واحدة، وقف تحت شجرة المانجو يتابع ما يحدث بدهشة كبيرة، الرؤية من بعيد تسمح له بقراءة أعمق لما يحدث..

الموظفين يتحركون في أسراب من اليمين لليسار حتى يجدوا فرصة الوقوف مع الباشا، كٌل منهم يتحرك بزوجته ويدفعها بيده لتسبقه بخطوة أو خطوتين، لم يكن يعرف قبل حضور الحفل أن زملاؤه من الموظفين لهم زوجات بهذا الجمال وتلك الفساتين زاهية الألوان..

فتاة برداء أحمر داكن تقترب منه وهى تبحث مثله عن خلوة بجوار شجرة المانجو، لمح توترها وارتباكها بسهولة وهى تضع يديها أمام جسدها وتحرك أناملها بتوتر بالغ الوضوح، تفحصها من قدمها لرأسها وهى تقف بجواره جامدة تُحدق بإنبهار في دائرة الباشا المتغيرة الوجوه والفساتين..

لها ملامح شديدة الحسن أكثر من كل زوجات الموظفين، ردائها الأحمر فشل في اخفاء أنوثتها الأوضح بكثير من كل الحاضرات، لم يجد بنفسه شجاعة الحديث معها رغم أن بينهم مجرد خطوة واحدة، قلقها البالغ جعلها لا تشعر به ولا ترى نظراته الثابتة نحوها..

إحدى الخادمات من حاملي صواني الحلويات تقترب من الفتاة وتهمس لها بشئ لم يسمعه، فقط همسها لها جعلها تتراجع أكثر للخلف تكاد تلتصق بجزع الشجرة بجواره، الفتاة بلا شك تريد الاختباء وتخشى أن يراها أحدهم..

تراجعها سمح له برؤية مفصلة لملامح وجهها، الفتاة شديدة الحسن والجمال، جمال أقوى بكثير من خجله جعل لسانه يتحرر ويفعلها ويلقي عليها تحية رقيقة، تضاعف توترها وإرتجفت شفتاها ولم تنطق بحرف واحد واكتفت بالإيماءة برأسها وهى تحاول جاهدة أن تبتسم وتدعي الثبات..

الموسيقى تتبدل والحضور يتحركون لصنع دائرة واحدة واسعة وراقصة الحفل تدخل وترقص بالمنتصف، الدائرة الجديدة جعلت خلوتهم تُصبح في خبر كان ويجد نفسه يقف ملاصقًا لها وبجوارهم من الجانبين الموظفين وزوجاتهم..

الراقصة تطوف كالفراشة في كل زوايا الدائرة ومن سوء حظهم تقف أمامهم ترقص لأكثر من دقيقة، دقيقة جعلت أعين الباشا ترى صاحبة الرداء الأحمر الداكن، الرجل له أعين ذكية لمّاحة، وقع قلب يونس افندي بين قدميه وهو يرى الباشا يتحرك نحوه ويقترب منه..

جاء بنفسه ليرحب به ويمد له يده وهو يحدثه وعيناه على الواقفة بجواره، معاونه يهمس له بإسم يونس ويذكره به، كأنه لم يراه منذ دقائق وأخذ منه هدية كلفته نصف راتبه!، مد يده للفتاة وطالت تحيته لها وهو يتفحص دون مواربة ما يخفيه الرداء من أنوثة لم تحظى أيًا من الحاضرات بمثلها..

الباشا يتحدث معهم وهو يظنها زوجته، لا مجال لتوضيح أو تصحيح، فقط صمت تام من يونس وجارته وهم يكتفون بالإبتسام لصاحب الحفل ومالك الحديقة وشجرة المانجو، مال الباشا على أذن معاونه وتحرك مبتعدًا عنهم والمعاون قبل أن يتبعه يهمس ليونس:
– مبروك يا يونس افندي الباشا أمر بترقيتك

فتح يونس فمه من الدهشة وهو لا يصدق أن خطة حسانين نجحت وحصل على حقه في الترقية بسبب حضوره الحفل، شرد لثوان وسمع بداخله صوت يخبره أن جارته هى سبب الترقية، لاشك أن الباشا ظنها زوجته وكافئه بالترقية على جمالها..

لم يتمالك نفسه من الضحك وهو يدرك ذلك ويفهم أن الباشا يكافئ موظفيه على حُسن إختيار زوجاتهم!، لابد أن يشكر جارته جالبة الحظ والترقية، لا أحد بجواره.. اختفت الفتاة!، تلفت حوله بدهشة يبحث عنها بلهفة وبالكاد لمحها في نهاية الحديقة تهرول مع الخادمة وتختفي عن بصره قبل أن يسعفه عقله بإتخاذ القرار ومحاولة اللحاق بها..

أنهت الراقصة فقرتها وتبخرت الدائرة الكبيرة وعادت الأمور كما كانت، دائرة صغيرة حول الباشا والموظفين يطفون حولها بصحبة زوجاتهم، وحده بقى في مكانه يلوى فمه بضيق بعد رحيل صاحبة الرداء الأحمر الداكن، رحيلها المفاجئ أنساه فرحة الترقية رغم بقاءه تحت الشجرة.

بقلم
أحمد عبد العزيز صالح

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى