كاتب ومقال

دار في خاطري| وسرق الزمان أيامنا

“يا إلهي! لقد مرت الأيام سريعة” تلك هي الكلمات التي وجدت نفسي أرددها بصوت عال حين كنت أقف في مطبخي أعد العشاء حسب رغبة أبنائي، فلكل منهم طلبه الخاص، وكنت أفكر في لقاء الغد، ذلك اللقاء الذي لم يخطر ببالي في الفترة الحالية، لقاء جعلني أعي أن الأيام قد مضت.

كنت دائما انظر إلى وجهي في المرآة فأراه كما هو، لا أرى أي تغييرا قد طرأ عليه، فاعلم أنني مازلت في ريعان الشباب، فلا أبالي بسنوات عمري التي تزداد عاما بعد عام، مادام وجهي كما هو لا يتغير، فلم أشعر بالخمسة عشر عاما التي مرت منذ تخرجي في الجامعة، كما أن هناك أمر آخر يخبرني بأنني مازلت في ريعان الشباب، وهو أن ذاكرتي مازالت تعمل بشكل جيد، فأنا لم أنس يوما الطعام على الموقد حتى يحترق، ولم أنس موعد وصول أبنائي من المدرسة.

ولكن يبدو أن الأمر قد تغير بعض الشيء، لقد بحثت كثيرا عن السكين في ظهيرة هذا اليوم، ولم أجدها في أي مكان، فقلت لنفسي في سخرية: ربما ألقيت بها في سلة المهملات، وبالفعل رحت أبحث عنها كنوع من العبث لا أكثر لينتهي الأمر بأن أجدها بالفعل وقد ألقيتها في القمامة، فعلمت بأن ذاكرتي بدأت تضعف، فهذه هي الخطوة الأولى في طريقي لمغادرة مرحلة الشباب.

ولكن قلبي الفتى الذي يأبى الكبر راح يلح في رفضه لهذا الأمر، فأرجع عقلي ذلك النسيان المؤقت الذي تبع ذلك الفعل الصادر عن عدم التركيز إلى التفكير في لقاء الغد، أجل! ذلك اللقاء الذي لا أعلم كيف سيكون.

لا أعلم كيف تم ترتيب هذا اللقاء بهذه السرعة، فما حدث هو أنني التقيت بإحدى صديقاتي منذ أيام الجامعة حين كنت أشتري بعض الأغراض، فقد كانت صدفة جميلة حين سمعت صوتا يناديني باسمي فالتفت إذا بصديقة لم أرها منذ خمسة عشر عاما، وبعد سلام مليء بالاشتياق رحنا نسير سويا بلا هدف محدد، نستعيد الذكريات، ونتذكر المواقف المبهجة التي كانت تدور بيننا نحن وباقي صديقاتنا في مجموعتنا التي كوناها في عامنا الأول بالجامعة، ثم سألتها عن هؤلاء الصديقات، ولأنها الوحيدة التي لم تتزوج في المجموعة فقد كانت تعرف أخبارهن، وعلى وجه السرعة قامت بالاتصال بهن وتحديد موعد لللقاء في إحدى الحدائق العامة التي كنا نقصدها بعد إنتهاء الامتحان الأخير في كل فصل دراسي، والغريب في الأمر أن الموعد الذي حددته صديقتي كان مناسبا للجميع، فلا أعلم إن كان ذلك أتى مصادفة أم أنه مدبر حتى لا ترفض إحدانا بحكم أنها تعلم عنا الكثير.

أجل! إن اللقاء له مذاقه الخاص الذي لا يعوضه تلك المكالمات التليفونية التي يضيع معظمها في مراقبة أفعال أطفالنا ونهيهم عن هذا وأمرهم بفعل ذاك، كما أنه فرصة لاستعادة الذكريات الجميلة، والخروج لبعض الوقت عن تلك الدائرة التي ندور بداخلها طوال الوقت دون الشعور بمرور الأيام والسنين.

وأتى موعد اللقاء فاجتمعنا جميعنا في الحديقة التي تغيرت كثيرا منذ آخر مرة قصدناها، وبعد التحية، والسلام، والعناق، والقبلات، جلسنا في مكان هادئ بعض الشيء، فقالت صاحبة الدعوة: لقد أصبحت الحديقة مزدحمة كثيرا، لم تكن كذلك في السابق، ومن ثم رحنا نتذكرها في الماضي ومقارنتها بالحاضر، ثم تفرع الحديث إلى موضوعات شتى حتى وصلت كل منا إلى دائرتها الخاصة.

فرحت أحدثهن عن أبنائي، وكيف يضيع اليوم في تلبية طلباتهم، والأعمال المنزلية، فقالت إحدى الصديقات: أن يومها يمر بسرعة غريبة، فهي تفعل ما أفعل إضافة إلى ذلك عملها الذي يبقيها خارج البيت لعدة ساعات، بينما قالت أخرى: أنها تقضي ساعات كثيرة خارج البيت، فعليها أن توصل ابنها إلى المدرسة وبعد ساعة توصل ابنتها إلى حضانة، ثم تذهب لشراء الأغراض المنزلية، ومن ثم تذهب لإحضار ابنتها، وبعدها بساعة تذهب لإحضار ابنها، وعند السادسة مساء تذهب برفقتهما إلى النادي ولكل منهما رياضته الخاصة، هذا بالإضافة إلى الزيارات العائلية، وقالت أخرى: أنه يتم استدعائها إلى مدرسة أبنائها مرتين في الأسبوع على الأقل، لأن ابنائها دائمي المشاغبة والعناد، فوقتها ضائع بين زيارات المدرسة والبحث عن الطرق المثلى في إصلاح سلوك الأطفال، وفي النهاية هي الملامة دائما.

وهكذا مضينا نسرد أحداث يومنا بينما كانت صديقتنا صاحبة الدعوة تنصت وتعلق ولكنها لا تقص شيئا، وعلى الفور توصلنا إلى أنها الوحيدة التي لا تدور في دائرة الأيام، فقالت لها إحدى الصديقات: يبدو أنك الوحيدة في المجموعة التي تحيا حياتها كما تخطط لها، فابتسمت وقالت: لا! فإن لدي دائرتي الخاصة التي تختلف عنكن بأنها لا تحوي أطفالا ولكن أحداث يومي تجعلني أدور بدائرة الأيام التي لا مناص منها لأي إنسان مهما اختلفت ظروفه الحياتية.

أمضينا وقتا ممتعا رغم قصره، فكل منا أرادت العودة، فمتطلبات الحياة أجبرتها على ذلك، ولكن قبل المغادرة اتفقنا على اللقاء مجددا يوما من كل شهر، وتمنينا أن نستطيع تنفيذ ذلك.

عدت إلى البيت وأنا أتذكر كلمات صديقاتي ولساني يردد الحمد لله، فإن حالي أفضل من أحوالهن، وكنت على يقين بأن كل منهن تحمد الله لأنها شعرت بما شعرت، ولكن الجملة الوحيدة التي مازال يتردد صداها في أذني وعقلي، هي تلك الجملة التي كررتها كل منا على مسامع الأخريات وهي “لقد تغيرت ملامحك” فقد رأت كل منا صديقات الجامعة وقد انتقلت من مرحلة المراهقة إلى مرحلة الرشد والنضج، لذا فقد شعرنا جميعنا بالتغيير.

وفور دخولي إلى البيت هرعت إلى مرآتي انظر إلى ملامحي التي لم أرها يوما مختلفة، لأرى أمامي امرأة ثلاثينية قد غادرت العشرينات وأشرفت على الأربعينات.

بقلم:
ريم السباعي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى