كاتب ومقال

إبداعات كلمتنا| “ولا خطر على قلب بشر”

رؤوس مرفوعة مُحدقة مدعية الفهم والإجلال، ورؤوس منكسة تقاوم الرغبة في التثاؤب والنوم، والشيخ عثمان لا يكف عن مراوغة أذان المصلين بتغيير حدة صوته، مرة يصيح ومرة يخفض صوته كأنه يتحدث من أعمق نقطة في معدته..

الخطبة العاشرة التي يتحدث فيها عن نعيم الجنة وجوائز المؤمنين المخلصين، “فيها ما لاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر” لا تمر دقيقة ولا يعيدها، مرة بنبرة حماسية ومرة بنبرة باكية برجاء، حسن من الرؤوس المرفوعة المحدقة في وجه الشيخ عثمان وهو يملأ المنبر بجسده وحركات ذراعيه، الشاب المشتعل العشق والأماني، يسمع خطبة الشيخ بقلب وجل وجسده يرتجف من الرهبة والرجاء..

الحديث عن نعيم الجنة يهون عليه عشرات الأمور، ينسيه معاملة شيخ البلد القاسية له رغم اتقانه لعمله وإخلاصه المبالغ فيه، رغم ضعف الأجر وقسوة المعاملة إلا أنه لم يفكر لحظة في ترك عمله بأرض شيخ البلد، وكيف يفعلها ويحرم نفسه من لحظات عابرة تضئ فؤاده وتطفئ الحريق الناشب في صدره من لحظة وقوعه في عشق سعادات إبنة شيخ البلد رب عمله وقاتل أمله..

كل شئ يهون أمام لحظة يلمح فيها طيف سعادات، منذ زواجه من إبن العمدة المدلل وهو يجلس بالساعات أمام حظيرة البهائم يرجو أن تزور الدار ويشبع بصره وقلبه برؤيتها، وما الغرام إلا مارد عتيد يُلجم عقول العشاق، ساخر وخبيث وصاحب ألاعيب شريرة تدمي القلوب، أوقع غرام سعادات إبنة الحسب والنسب في قلب حسن الكلاف الفقير..

سخرية ما بعدها سخرية، لكنها لا تبعث على الضحك بقدر ما تبعث على البكاء، سعادات المدللة المغترة بجمالها لم تنظر له مرة واحدة حتى من قبيل الصدفة، لم تحدثه لم تبتسم له لم تخصه بنظرة من أعينها البنية، لم ولم وألف لم ورغم ذلك سكن مارد الغرام قلب العاشق المفتون لحد الجنون..

تزوج أخوه الأكبر والأصغر وظل هو بلا زواج، كيف يفعلها ويعصى أمر المارد ويتحدى سلطانه، قابع أمام الحظيرة حتى الغروب، بائس مقهور الفؤاد حتى أن بهائم الحظيرة شعرت به وتعاطفت معه وقرروا التوقف عن صنع الجلبة إحترامًا وتقديرًا لقلب العاشق الممسوس بسحر الغرام..

“فيها ما لا عين رأت وأذن سمعت ولا خطر على قلب بشر” نطقها الشيخ عثمان للمرة المئة قبل أن ينادي لإقامة الصلاة، الرجفة متمكنة من قلب وجسد حسن، فور الإنتهاء من صلاة الجمعة، هرول بحماس نحو الشيخ الوقور،
– صحيح يا شيخ في الجنة أي أمنية مستجابة؟

إبتسم الشيخ بسعادة يشوبها غرور وإعتزاز بتأثير خطبته على قلوب المصلين خلفه،
– فيها يا حسن يا ابني ما لا خطر على قلب بشر
تنهد حسن بحسرة بادية في دمعة تريد القفز من أعينه الحزينة،
– قلبي موجوع يا شيخ وعندي أمنية وخايف ما تتحققش في الجنة
لكزه في كتفه مبتسمًا،
– إدخلها بس الأول يا حسن وبعدها اتشرط

رفع حسن هامته بحماس مضاعف مغلف بإجلال وخشوع،
– أنا بصلي الفرض بفرضه يا شيخ وما عمريش عملت حاجة تغضب ربنا
ربت الشيخ على كتفه بعطف،
– أنا عند ظن عبدي بي
ربنا يكتبهالك يا ابني أنت وكل المسلمين
– يعني أمنيتي هاتتحقق يا شيخ؟

شعر الشيخ عثمان بشك وفضول جعله يجذب حسن من ذراعه ويدعوه للجلوس أمامه،
– نفسك في ايه يا حسن؟
إرتبك حسن وتلعثم قبل أن يشيح بنظره عن أعين الشيخ المحدقة ويتحدث بصوت مرتجف خفيض،
– نفسي.. نفسي أتجوز واحدة بحبها في الجنة
رفع الشيخ عثمان حاجبيه بدهشة،
– وايه يخليك تستنى لحد ما تدخل الجنة؟!
ما تتجوزها يا ابني النهاردة قبل بكرة

إبتسم حسن بوهن وسخرية من حاله،
– ما هي متجوزة يا شيخ
قطب الشيخ حاجبيه بغضب وضيق،
– استغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم
بتعشق واحدة متجوزة يا حسن؟!
اخص عليك وعلى ربايتك،
جنة ايه اللي يدخلها اللي زيك يا عديم الرباية

انفعل حسن بلوعة بالغة وإرتفع صوته مدافعًا عن نفسه وهو يشعر أن غضب الشيخ منه قد يحرمه من دخول الجنة وتحقيق أمنيته،
– حد الله بيني وبين الحرام يا شيخ
– وهو في حرام أكتر من اللي بتعمله يا ابني!
خفض حسن رأسه مجاهدًا رغبته في البكاء،
– مش بإيدي العشق يا شيخ
وربنا عالم عمري ما رفعت عيني ناحيتها باللي يغضب ربنا، بس نفسي يا مولانا اللي ما طولتوش في الدنيا أطوله في الآخرة..

إنتقل إرتباك حسن للشيخ عثمان وهو يفتش في عقله عن إجابة سليمة، لحظات قاسية من الصمت ومرارة إنتظار سماع الإجابة، “فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر” كيف بعد أن قالها عشرات المرات في خطبته، يقنعه بعكسها ويفهمه أنها حياة غير الحياة ولها منطق مختلف ورغائب لا نعلمها، الزوجة الصالحة لزوجها الصالح في الجنة..

هل يخبر حسن بذلك ويفتح للمسكين باب للغضب واليأس وقد يكفر بحلمه وأمنيته ويتوقف عن الحلال، ورطة كبيرة شعر بها الشيخ جعلته يندم على خطب الجنة ونعيمها، حسن التعيس لن يفهم منه كلام الفقه والشرع، لن يستوعب عقله ولن تتقبل نفسه غير إحابة واحدة، زفر ووضع كفه فوق كتف حسن مبتسمًا،
– اتقي الله يا حسن يا ابني على قد ما تقدر وغض بصرك وعف لسانك وإحفظ فرجك وبإذن الله ربنا يرضى عنك وتدخل الجنة وتحقق أملك

تهلل وجه حسن وقفز من مكانه من شدة فرحته وأخذ يقبل رأس الشيخ بسعادة لم يشعر بمثلها أبدًا من قبل، هرول نحو الخطيرة بخطوات راقصة قافزة كالفراشات وهو يكرر جملة الشيخ، “ولا خطر على قلب بشر”، صوت صراخ من ناحية دار شيخ البلد،
وجل قلبه وسارع في عدوه وهو يصيح،
– استر يا رب

دار شيخ البلد مشتعل بحريق، الكل في الخارج أمام الدار يصرخون بلوعة، الصغيرة ذات العامين إبنة سعادات عالقة في الطابق الثاني ولا أحد يستطيع إختراق الحريق لإنقاذها، سعادات تصرخ وتلطم وجهها وزوجها إبن العمدة يحاول الفكاك من أذرع الرجال والتضحية بنفسه لإنقاذ صغيرته، لا يسمحوا له بفعلها وفقد حياته وقد يفشل في إنقاذ الصغيرة..

قلب حسن لم يتحمل لوعة سعادات،  ولما لا، الموت يعجل دخوله الجنة، لم ينتبه له أحد حتى وجدوه فجأة يندفع بلا ذرة خوف مخترقًا الحريق، إحتبست الأنفاس وتوقف الجميع عن الصراخ والعويل، حتى سعادات توقفت عن الصراخ واللطم وللمرة الأولى نظرت نحو حسن بتحديق وتركيز..

تبدل صراخهم بصراخ حسن قبل أن يروا وجهه لأخر مرة وهو يفتح نافذة الطابق الثاني ويلقي بالصغيرة وتتلفقها الأذرع، نجت الصغيرة وأحتوى الحريق جسد حسن وهو يمني نفسه بتحقق ماخطر على قلبه ملايين المرات بزواجه بسعادات.

بقلم
أحمد عبد العزيز صالح

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى