كاتب ومقال

إبداعات كلمتنا| “الشيطان يستيقظ مبكرًا”

قبل السادسة صباحًا وقبل موعد عمله بعدة ساعات،
يستيقظ منتفضًا بكامل وعيه وحماسه ونشاطه كأنه نام أكثر من عشر ساعات، رغم أنه لا ينام أكثر من ثلاث أو أربع ساعات في أحسن الأحوال، عقله كقطعة من الجحيم لا يترك له فرصة للراحة والهدوء، حتى في أوقات النوم يظل يفكر ويصارع وتصير أحلامه كأنها شريط سينمائي يراه بوضوح وأحيانًا يتحكم فيه ويفرض إرادته ورغبته على سير الأحداث..

يفكر في كل شيء وفي كل شخص يعرفه أو لا يعرفه، يعيه الشعور بأن أحدهم يشعر براحة أو سعادة، تدمره رؤية الآخرين في سلم وراحة بال، استيقاظه يصنع جلبة مقصودة تعاني منها زوجته كل صباح، وفي كل مرة تدعي الاستغراق في النوم، يتحرك بعنف وعشوائية بدون سبب حتى يستقر به المقام بشرفة منزله..

يستند على ذراعيه ويحدق في المارين والعابرين بحنق، لا يعرف سببًا معلومًا وواضحًا لمشاعر الكراهية تجاه الجميع، فقط يكره الجميع وبدون استثناء، يحقد على الناجحين ويحسد المكملين طريقهم بشغف وتفاؤل، يملك سيارة خاصة، ومع ذلك يصمم على الذهاب لعمله بالمواصلات، رغبة عارمة في سماع أحاديث الركاب..

يمنى نفسه بسماع ما يطرب قلبه من شكوى أو انكسار حتى من أشخاص لا يعرفهم ولن يقابلهم مرة أخرى، بداخل روحه نار موقدة لا يرغب في إخمادها، بل يعمل ليل نهار على مضاعفة حطبها وسماع طقطقة لهيبها، جلبة وصوله للعمل لا تختلف عن تلك الجلبة التي يمنحها لزوجته كل صباح، يبذل كل ما بوسعه لإعلام الجميع بوصوله، لم يعد له عمل واضح أو ذي أهمية..

فقط عندما يشيخ القرد في حديقة الحيوان يظل جالسًا في قفصه يتبادل النظرات مع رواد الحديقة بفتور وعدم اهتمام، رؤيته تصيب زملاءه بالضيق والعبوس، وجوده يعني حدوث المشاكل والمصائب، إن لم تحدث وحدها.. بذل قصارى جهده لصنعها بنفسه وجعلها معقدة متشابكة..

يعرف تمام المعرفة أن كل من حوله يكرهه ولا يرغب في رؤيته وسماع صوته، وما أسهل استباق الهجوم لنفي الشر عن نفسه بادعاء أنهم فاسدون وأنه ممثل الحق في المكان والباحث عن الفضيلة وصانع العدالة المثالية، يفتح حافظة نقوده كل خمس دقائق لعل أحدهم يلمح ما بها من أوراق مالية..

يجب أن يعلم الجميع أنه لا يعاني ضائقة مالية نتيجة عزوف المهتمين عن طلبه في عمل إضافي، كلهم يعملون في أكثر من مكان وتحقق لهم أضعاف ما حققه طوال خمسين عامًا، نفي الفشل يتم بادعاء الزهد وعدم الرغبة، الأجساد تفر من أمامه وتهرب من الوجود في حضرته، العيون تتلاشى رؤيته ورؤية ملامح الشر منحوتة فوق ملامحه..

يجلس متحفزًا بجوار باب المكتب ليكون أول المستقبلين لمن يتعسه حظه بالحضور في وجوده، نرمين ذات الشعر الأصفر والقوام الطويل الممشوق، تعبر الباب وترميه بتحية باهتة دون النظر في وجهه،
يرتبك.. يضطرب ويتوتر.. يتعرق جبينه وتصيبه تلك اللزمة بالفشل في ابتلاع ريقه وإصابته بضيق التنفس..

نرمين الفاتنة محطمة قلبه وصانعة أكبر فضائحه،
عشقها بكل جوارحه واعتبر كونها مطلقة، صيد سهل المنال، طاردها لأشهر كي يقنعها بالوقوع في غرامه، صور لها العالم من حولها مجموعة من الذئاب البشرية وأنه منقذها الوحيد، ملأ روحها بمشاعر الخوف من الجميع ودعاها لاعتناق نبوته أنه مخلصها من كل عذاباتها، زوجة ثانية.. هذا هو الحل المثالي، أن تصبح زوجته يعني أن تهرب من تربص الجميع..

الذئاب لن يتركوا فاتنة مثلها إلا إذا أعلنت دخولها في عرينه والاحتماء به، نسج خيوط العنكبوت حولها وصنع الأفخاخ حولها ولم يترك لها طريقًا غير الطريق إلى رغبته في امتلاكها، الفاتنة صاحبة القلب الطيب تفيق في اللحظة الفارقة، تقاوم.. تتمرد.. تهرب منه وتحتمي بالآخرين بعد تيقنها أنهم ليسوا ذئابًا وأنه هو الذئب الوحيد وصاحب ضمير الشيطان..

ظهور نرمين يهدم معبده فوق رأسه، يتضاءل وينكمش ويعاني من القدرة على ابتلاع ريقه، يخفت صوته ويتوارى حماسه خلف شعوره بأن الجميع يعرفون قصته، قصة الذئب والفاتنة البريئة، النار بصدره تضاعف وتصبح أكثر شراسة..

يحدق ويدقق.. يفتش عن أي شيء مهما كان صغيرًا لينفخ لهيبه فيه ويضاعف حجمه ويحوله لكارثة ومصيبة، لا يجب أن يصبح هو الشيطان الوحيد في المكان، يجب أن يلصق صفة الشر في الجميع، هذا وصل متأخرًا، وهذا نسى شيئًا ما، وهذا وهذا وهذا.. لا وجود للملائكة، الكل شيطان وصانع للشر..

صوت ضحكتها مع الآخرين يصبح طعنات تخترق صدره، كل همس لا يستطيع تفسيره يؤمن أنه بلا شك ينال منه ومن قصته، يصول ويجول ولا يغادر حتى يتأكد أنه أضر العدد الأكبر من الموجودين، يغادر وهو يصيح أنه لم يفعل شيئًا غير إعلاء كلمة الحق وتحقيق العدالة المنشودة ومحاربة الفساد، يعود ويسترق سماع أحاديث ركاب الميكروباص، معاناة الآخرين تصيبه بالشعور بالراحة..

يعبر باب منزله بجلبة تفوق جلبة استيقاظه في الصباح، ينقبض قلب زوجته فور شعورها بعودته، عودة الشيطان دائمًا تصحبها المشاكل، يصيح عليها طلبًا لكوب من الماء المثلج، لم يتخلص بعد من مشاعر الهزيمة والخسارة، يسألها عن الطعام ويتلعثم ويناديها بـ “نرمين” ترمقه بنظرة ساخرة وهي ترى احمرار وجهه، وحدها تعرف أنه الأكثر جبنًا رغم كل مظاهر القوة التي تنطلي على الغرباء، تتركه دون عتاب أو إعلان إدراك لتلعثمه، فقط بداخلها رغبة أن يمر اليوم ككل الأيام حتى يأتي الصباح ويستيقظ مبكرًا من جديد.

بقلم
أحمد عبد العزيز صالح

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى