كاتب ومقال

ومضة| الدائرة المغلقة

بقلم: أحمد سليمان

أحمد سليمان

تمضي اللحظات بسرعة ليس لها مثيل وبشكل غير مسبوق، لم يحدث أن مر الوقت بتلك السرعة منذ نفخ الله الروح في خلقه حتى اللحظة التي أدرك فيها الجميع أنه قد حان وقت النهاية، الكل يترقب في عجز.

في البداية لم يصدق الجميع القصة لأن الأمر تكرر كثيراً تحت عناوين “ناسا تحذر من اصطدام نيزك بالأرض” أو “الحياة مهددة على الكوكب خلال أيام” وكلها عناوين لم تكن تؤخذ محمل الجد لتكرار الأمر دون حدوث جديد، ولكن هذه المرة الأمر مختلف، كل الحسابات الفلكية تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك اقتراب نيزك من الأرض، كل يوم يقترب أكثر وتتأكد المعلومة، حتى صار قاب قوسين أو أدنى، أمامنا الآن 24 ساعة قبل اصطدامه بالأرض وجميع التقديرات العلمية تشير إلى أن هلاك جميع ساكني الكوكب العتيق مؤكد لا محالة.

24 ساعة على النهاية:
امتلأت جميع دور العبادة بالمصلين كل حسب عقيدته، فلم يصبح هناك موضع قدم لمُصَلٍ، واختلفت دعوات المصلين، فبعضهم تمسك بالأمل ودعا الله بالمعجزة أن تأتي ويبتعد النيزك من حيث لا يدري أحد ولا يحتسب، بينما توجه آخرون إلى المولى بدعواتهم ليخفف عنهم آلام الموت وسكراته بعد أن استسلموا للمصير المظلم.

بكى بعض المصلين لغسل ذنوبهم وهم لا يدرون أن حدوث المعجزة ربما يعيدهم تارة أخرى إلى خطاياهم السابقة، في حين عم الهدوء على آخرين كأن النهاية لا تُخيهم ولا تقبضهم.

20 ساعة على النهاية:
غادر معظم الأطباء مستشفياتهم تاركين المرضى يواجهون مصائرهم، ضجت الأسِرة بصرخات الآلام من مرضى الأسقام المؤلمة، وحاول من تبقى من أطباء من إعطاء مسكنات للمرضى من أجل إخماد آلامهم حتى لحظة النهاية الحتمية، لكن المسكنات نفدت من معظم المستشفيات بعد توقف التوريد منذ عدة أيام.
تمنى المرضى المتألمون أن تتقلص المدة المتبقية على نهاية الكون من 20 ساعة إلى دقيقة أو أقل، ربما هم أكثر من يرغبون في النهاية الآن ويتوجهون إلى الله بدعواتهم كي تحدث.

16 ساعة على النهاية:
جلس صديقان يتحدثان عن النهاية الحتمية، كانا يمتلكان بعض الهدوء ربما لأنهم أدركوا أن لا شئ يمكن فعله بعد أن تملك اليأس قلوبهم.

لؤي: هل تيقنت أنها نهاية الحياة على الأرض؟
عمرو: ومن لا يتيقن من حقيقة لا تقبل الشك؟
لؤي: هل هي تصرفات الطبيعة كما كنا نظن؟
عمرو: لا أدري ولكني أتمنى أن نكون مخطئين يا صديقي.
لؤي: لماذا؟
عمرو: لأنها إذا كانت الطبيعة فالنهاية حتمية لأن الحسابات التي أكدت نهاية الكون لن تتغير، أما إذا كان للكون حاكم ربما يستجيب لدعوات بعض الصالحين فتنجو الحياة على الكوكب.
لؤي: هل تتمنى أن تستمر الحياة؟ أم تريد أن تكون على حق؟ أيهما أهم؟
عمرو: غريزة حب الحياة تجعلني أريد استمرارها بلا شك.

12 ساعة على النهاية:
هجر معظم الفلاحين مزارعهم وذبلت العديد من المحاصيل، لكن ظلت قلة تتمسك بعمل وتقوم بحرث الأرض رغم علمهم أن جهودهم ستذهب سدى.
تمسك بعض الفلاحين الذين أصروا على مواصلة العمل بالأمل في حدوث معجزة من الله تجنب الأرض الفناء، بينما يئس آخرون ورغم ذلك استمروا بدافع ديني ربما حتى يغرسوا آخر فسيلة في أرض الله.

8 ساعات:
الوقت يمر بسرعة، وقد تيقن أحمد بحدوث النهاية، ومع ذلك قرر مواجهة الأمر بشكل مختلف، فهو يمضي وقته الأخير في كتابة رسالة إلى محبوبته مُنى التي لم يستطع أن يعترف لها بحبه.

تزوجت مُنى وأنجبت، ومع ذلك ظلت الحب الأول والأخير لأحمد رغم مرور العديد من السنوات على افتراقهما عقب التخرج من الجامعة، فقد ظل يتابع أخبارها عبر “الفايسبوك” فهما صديقان من خلاله إلا أن لم يفكر في التحدث إليها لأنها امرأة متزوجة من غيره وحتى لا يسبب لها أي مشاكل أو هكذا أقنع نفسه، لأنه لم يحدثها حتى لا تقوم بحظره نهائياً فتنغلق أمامه نافذة رآها تشع إليه نوراً سيقوده إلى جنة عرضها السماوات والأرض.

قرر أحمد كتابة رسالة إليها وإرسالها في الساعة الأخيرة قبل نهاية الكون، وهو لا ينتظر الرد ولا ينتظر أي شئ، فقط يريدها أن تعلم قبل أن يفنى الكون، ربما لن يتعارفا في أرض المحشر وكل منهما سينشغل بعمله.
كتب الرسالة وانتظر إرسالها في الساعة الأخيرة قبل النهاية..

مُنى.. قد تستغربين حديثي إليكِ بعد كل تلك السنوات، لا أعلم إن كانت كلماتي ستجد الطريق إليكِ لأنك ربما تنشغلين كما ينشغل كل من على وجه ذلك الكوكب العتيق بالنهاية، لكنني رغم النهاية لا يشغلني سواك، أريدك أن تعرفي شيئاً واحداً فقط لم يكن من الممكن أن أقوله قبل معرفتي بحتمية النهاية لأنك امرأة متزوجة من غيري، ولكن الآن تنتهي كل علاقات الدنيا بفناء الأرض ومن عليها، أريد أن أقول أنني أحببتكِ.. وأحبكِ وسأبقى أحبكِ حتى النهاية الحتمية، أما بعد النهاية فأنا لا أملك من أمري شيئاً أمام الله، أحبكِ رغم مرور كل تلك السنين، أنا لم أصارحكِ بحبي يوماً عندما كنا زملاء، أعترف أنني جبنت عن ذلك لأنكِ كنتِ في عيوني كالكوكب الدري الذي لا يمكن الوصول إليه، ولم أتمكن بعد ذلك أن أحب بعدك، أنت أمنيتي المستحيلة التي لا يمكن أن تُنال..وأعظم الأماني يا حبيبتي ما لا تُطال.

4 ساعات:
الجميع لا يتوقف عن العمل في ناسا، الحسابات في كل لحظة تؤكد أن اصطدام النيزك بكوكب الأرض مسألة وقت، ومع ذلك يدرس العلماء أي احتمال ضئيل لنجاة الكوكب العتيق والحياة عليه.

حاول العلماء خلال الأيام القليلة الماضية إعادة توجيه النيزك من خلال سلاح فضائي حديث لكن الأمر لم ينجح.

ورغم تأكيد الحسابات العلمية إلا أن العلماء واصلوا حساباتهم علها تأتي بجديد في اللحظات الأخيرة قبل النهاية، رغم أن الوقت يمضي دون أن يترك لهم إمكانية التفكير في أي شئ.

ساعة:
ضجت البيوت بالصرخات بعد أن قرر البعض إنهاء حياتهم بأيديهم وعدم انتظار النهاية، فمنهم من قرر ابتلاع شريطاً من الأدوية، ومنهم من ألقى بنفسه من مكان مرتفع، وبعضهم رمى نفسه بالرصاص.

اختار هؤلاء أن يذهبوا إلى النهاية بأنفسهم بدلاً من مواجهة المصير المحتوم، وقد ظنوا أن آلام الموت بطريقتهم ستكون أقل بكثير من ألم الموت الجماعي بسبب النيزك الذي سيصطدم بالأرض خلال لحظات.

العد التنازلي:
أقل من عشر دقائق على النهاية كما تؤكد جميع الحسابات، والكل ينتظر، المصلون في دور العبادة يواصل التوجه إلى الله بالدعاء، مات بعض المرضى من شدة الألم، كف الصديقان عن النقاش وانتظرا المصير المحتوم، أرسل العاشق الصامت رسالته الأخيرة إلى محبوبته وأغلق هاتفه دون انتظار رد، وواصل العلماء الحسابات ولكن شيئاً غير متوقع لاح في الأفق.

المعجزة:
فجأة وبدون سابق إنذار حدثت المعجزة، فالنيزك بدأ يبتعد عن الأرض وسقط في الفضاء السحيق بفارق كيلومترات معدودة عن الكوكب العتيق.

كل ما حدث أن السلاح الفضائي الذي لم تتابعه وكالة ناسا بعد فشله في إعادة توجيه النيزك اصطدم بقمر صناعي، وهو الحدث الذي لم يهتم به أحد ولكن القمر خرج عن مساره واصطدم بالنيزك ليتسبب في تحركه لعدد قليل من الكيلومترات مما كتب النجاة لهذا الكوكب العتيق.

دائرة مغلقة:
قفز المصلون فرحاً، سجد بعضهم حمداً لله على نجاتهم من الهلاك، بينما هرول آخرون إلى خارج دور العبادة ليعودوا إلى ما كانوا يفعلونه من قبل دون أن تجف دموع الابتهال إلى الله من على وجوههم، وظل بعض المصلين في هدوء لم يفرحهم خبر نجاة الكوكب سوى بأنهم شعروا باستجابة الله لدعواتهم إلا أن الخوف ظل يحيط بهم لأنهم رأوا أن هناك على هذا الأرض من يستحق أن يهلك الكوكب لأجلهم.

أما الصديقان فواصلا حديثهما..
لؤي: لماذا كذبت حسابات الطبيعة يا صديقي؟
عمرو: ربما لأن كل شئ به نسبة خطأ وربما لأن الكون له من يحكمه، سأظل أبحث عن الحقيقة لعلي أهتدي إليها.

وعاد الأطباء إلى مستشفياتهم محاولين إنقاذ من تبقى من المرضى الذين لم يسعدهم كثيراً خبر نجاة الكوكب بسبب شدة الآلام، بينما رجع المزارعون يحاولون اللحاق بمحاصيلهم التي أصابتها يد الإهمال خلال الأيام الماضية.

أما أحمد فقد اختار حظر منى من على وسائل التواصل الاجتماعي دون أن يعلم مصير رسالته ليغلق الباب الذي يشع في خيالاته أنواراً كاذبة إلى جنة لا توجد سوى في عقله العاشق.

 

نبذة عن الكاتب

أحمد سليمان

أحد الكتاب الشباب لمنصة كلمتنا

محرر صحفي تخرج في كلية الإعلام جامعة القاهرة

صدرت له 4 كتب
منهم ديوانا شعر باللغة العربية “بلاء عينيك أطلال”
مجموعتين قصصيتين “مواسم الموت وعيادة فقدان الذاكرة”

للتواصل :

[email protected]

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى