كلام رجالة

“وفاة غامضة” و”تراث حي”… 100 عام على رحيل سيد درويش

من منا لم يستمتع يوما أثناء ترديد “زوروني كل سنة مرة” أو “أهو دا اللي صار”، وبالرغم من جمال كلماتها إلا أن عزوبة وعبقرية ألحانها كانت سبباً في تعلقنا بها، وهنا تكمن عبقرية “سيد درويش” الذي كان سببا لظهور هذه الألحان وغيرها لتثري تراثنا المصري والعربي.

لم يكن سيد درويش كغيره من الملحنين والمطربين في عصره، بل كان له طابعا خاصا جعل كافة فئات الشعب ترتبط بألحانه وأغانيه، فغنى للفلاح والعامل والموظف حتى الجارسون، ومع ذلك فإن حياته الفنية كانت قصيرة فقد توفي في ريعان شبابه وهو ابن 31 من العمر في ظروف غامضة.

وفي هذا التقرير وبمناسبة مرور 100 عام على رحيله تأخذك منصة كلمتنا في جولة نتعرف فيها سويا على هذا الشاب الذي لقبه المصريون بـ “الشيخ سيد درويش” ، و”مجدد الموسيقي” و”باعث النهضة الموسيقية”، وكيف أثر تأثيرا كبيرا في الموسيقى العربي؟.

بدايات الشيخ

كانت الإسكندرية محل ميلاد “السيد درويش البحر” وتحديدا في 17 مارس عام 1892، وذلك بأسرة متوسطة توفت عائلها الوحيد مبكرا، لذا لم تقدر الأسرة على تكاليف الدراسة فالتحق درويش بمعهد ديني بأحد مساجد الإسكندرية وهو مسجد “العباس – المرسي” وهناك حفظ القرآن كاملا بالتجويد وعقب تخرجه أطلق عليه ذويه “الشيخ سيد درويش”.

تسلل حب الإنشاد إلى قلب الشيخ سيد، فبدأ بالتركيز على الغناء ليتنقل بين المقاهي ويطرب زائريها، ولما بلغ السادسة عشر تزوج من زوجته الأولى، لكنه لم يستطع التفرغ للغناء فعمل كـ”عامل بناء” ليتحمل مسئولية زواجه، واستمر في الغناء خلال العمل وأوقات فراغه.

وحين مرة سمعه “الأخوان عطالله” السوريين فأعجبا بغنائه لينتقل معهما إلى الشام في رحلة فنية قصيرة تعلم فيها الكثير لكنه لم يلق النجاح الكافي حينها، وبعد سنوات عاد مرة أخرى إلى الشام وتعلم خلال هذه الرحلة الأخيرة كتابة النوتة الموسيقية وعزف العود فعاد إلى الإسكندرية ليقدم ألحانه بنفسه ويبدأ نجمه في البزوغ رويدا رويدا.

عبقري المستقبل

خلال فترة بسيطة ذاع صيت “الشيخ سيد درويش” بالإسكندرية حتى وصلت أخباره إلى القاهرة، مما دفع الشيخ “سلامة حجازي” الذي كان ذو شهرة كبيرة حينها إلى السفر للإسكندرية لحضور إحدى حفلاته، وبالفعل أعجب به و بألحانه وصوته وشجعه للمجئ إلى القاهرة.

وعلى عكس ما كان يتمناه درويش فقد استقبله جمهور القاهرة بفتور بسبب صغر سنه إلا أن الشيخ سلامة خرج إليهم ليدافع عنه وأكد لهم أن هذا الصغير هو عبقري المستقبل، لكن ذلك لم يمنع درويش من العودة للإسكندرية بعد إحباطه.

أكمل درويش غناؤه وتلحينه الذي كان مختلفا عن ملحني عصره، حتى تمكن من كسب ثقة الممثل الكبير “جورج أبيض” ليلحن لفرقته رواية كاملة وهي (فيروز شاه)، والتي أعجب بها الجمهور كثيرا لتبدأ مرحلة جديدة في حياة الشيخ درويش.

تراث كبير

عقب (فيروز شاه) علمت الفرق الأخرى إلى أن هناك فنا جديدا وألحانا مختلفة نقلت الروايات المسرحية نقلة نوعية ، فحرصت الفرق على اجتذاب درويش لتلحين رواياتهم، وحينها حيث تعرف على شخصيات هامة مثل نجيب الريحاني، وفرقة على الكسار حتى أصبح في سنوات معدودة الملحن الأول في مصر .

وضع درويش للكسار والريحاني العديد من الألحان، التي تعد من التراث والفلكلور المصري مثل “زوروني كل سنة مرة”، و”الحلوة دي “، و”اهو دا اللي صاور، وأيضا “سالمة ياسلامة”، وهي الأغاني التي أصبحت تجوب كل الوطن العربي وتغنى بها كبار المطربين أمثال صباح فخر وفيروز.

ومع قيام ثورة 1919 كان الشارع المصري على موعد مع أغنية جديدة بألحان الشيح سيد، فأصبحت “قوم يا مصري” من أشهر وأكثر الأغاني ارتباطا بالمصري حتى يومنا هذا.

وضع درويش ألحانا لنحو 20 اوبريت، فخلال عام 1920 تم تقديم أوبرا كاملة من ألحان سيد درويش بعنوان “مارك أنطوان وكليوباترا” على خشبة المسرح المصري ليترك بصمته بالاوبرا، كما تمكن من إدخال الغناء البوليفوني في الموسيقى المصرية للمرة الأولى فقد لحن أوبريت “العشرة الطيبة” مع فرقة نجيب الريحاني و أوبريت “شهرزاد ” التي كانت انقلابا جديدا في عالم الموسيقى العربية والألحان المسرحية.

وحينما كانت البلاد في حاجة لأنشوده تحتفل بها بعودة سعد زغلول من المنفى، كان سيد درويش هو بطل القصة مرة أخرى ليلحن النشيد الشهير “بلادي بلادي” المقتبسة كلماته من خطاب ألقاه الزعيم مصطفى كامل عام 1907.

لغز وفاته

بعد سنوات قصيرة أثرى خلالها سيد درويش الموسيقى العربية بالقوالب المختلفة والعشرات من الأدوار، حتى بلغت أعماله 40 موشحا، ومائة طقطوقة، و30 رواية مسرحية وأوبريت، توفي بشكل مفاجئ في العاشر من سبتمبر عام 1923، تاركا خلفه لغز وفاته.

وحتى يومنا هذا لا يعلم المصريون كيف توفي “الشيخ سيد درويش” فقد كثرت الأقاويل حول قتل الإنجليز والملك فاروق له بسبب أغانيه الوطنية، ومنهم من أكد أنه توفي بجرعة مخدر زائدة، ومنهم من فضل أن يكون موته طبيعيا، ومع اختلاف الروايات ستبقى هناك حقيقة واحدة ثابتة، وهي أن هذا الشاب استطاع خلال سنوات قصيرة أن يترك أثرا لم تستطع الرياح محوه حتى الآن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى