رؤى التحول الاقتصادي والطاقة| سر الصمود في عالم متغير

العالم يتغير بوتيرة متسارعة لم يشهدها التاريخ من قبل فالتحولات الجيوسياسية والاقتصادية والتكنولوجية تعيد تشكيل موازين القوى مما يجعل الاستقرار أمرًا نادرًا والتوقعات أكثر صعوبة. لم تعد الدول القوية تهيمن فقط بفضل جيوشها أو اقتصادها، بل بفضل قدرتها على التكيف السريع مع المستجدات. السؤال الذي يفرض نفسه هنا: من يملك مفاتيح الصمود في هذا العالم المضطرب؟
الصمود ليس مجرد قدرة على التحمل بل هو مهارة في إعادة التموضع والقدرة على التكيف دون فقدان الاتجاه. في التاريخ شواهد عديدة على دول سادت لعقود ثم تراجعت لأنها لم تدرك طبيعة التغيير من حولها وأخرى استطاعت أن تتحول من كيانات ضعيفة إلى قوى عالمية، لأنها فهمت القواعد الجديدة للعبة. إذا أمعنا النظر في القوى الاقتصادية والسياسية اليوم. سنجد أن الناجين هم أولئك الذين استطاعوا تحويل الأزمات إلى فرص بينما الذين تقوقعوا داخل أطر تقليدية وجدوا أنفسهم خارج المشهد سريعًا.
في الماضي كان مفهوم القوة يرتبط بالقوة العسكرية لكن مع تطور الاقتصاد العالمي والتكنولوجيا تغيرت القواعد. لم يعد امتلاك الجيوش الضخمة والحدود المحصنة كافيًا بل أصبحت القوة تقاس بمدى قدرة الدولة على الصمود في مواجهة الأزمات الاقتصادية، ومدى استعدادها لتبني الحلول المبتكرة لمشاكلها الداخلية والخارجية. الدول التي بنت اقتصادات قوية متنوعة لم تعد تعتمد على مصدر دخل وحيد ولذلك لم تهتز بشدة عندما ضربت الأزمات العالمية. في المقابل هناك دول تملك ثروات ضخمة لكنها بقيت هشة لأنها لم تستثمر في بناء أنظمة اقتصادية مستدامة.
التكنولوجيا أصبحت جزءًا رئيسيًا في معادلة الصمود. الدول التي تمتلك المعرفة وتستثمر في البحث العلمي تتقدم بسرعة بينما تلك التي تعتمد على استيراد التكنولوجيا تجد نفسها تابعة لا قائدة. التفوق التكنولوجي لم يعد رفاهية بل هو الضامن الحقيقي للمستقبل. من يمتلك القدرة على الابتكار يستطيع أن يفرض نفسه على الساحة الدولية بينما من يظل مستهلكا لما يقدمه الآخرون سيظل رهينة للتغيرات الخارجية.
الاقتصاد الذكي أصبح هو السلاح الجديد في هذا الصراع العالمي. الدول التي تفهم كيفية توظيف التكنولوجيا لتعزيز اقتصادها وتضع سياسات مرنة تستجيب للتحولات ، هي التي ستظل قادرة على المنافسة. في المقابل هناك دول لم تتغير منذ عقود لا تزال تعتمد على نفس النماذج القديمة رغم أن العالم من حولها تغير تمامًا. هذه الدول قد تصمد لفترة لكنها حتما ستواجه أزمات تهدد وجودها ما لم تتحرك سريعا لإعادة بناء نفسها وفقًا لمتطلبات العصر.
التعليم والمعرفة هما الوقود الحقيقي للصمود. الدول التي استثمرت في تعليم شعوبها وأدركت أن بناء العقول لا يقل أهمية عن بناء الجيوش استطاعت أن تحافظ على مكانتها حتى في أصعب الأوقات. المجتمعات التي تعتمد على التلقين وإعادة إنتاج الماضي دون إبداع أو تفكير نقدي تجد نفسها متأخرة دائمًا. التاريخ يؤكد أن كل أمة ازدهرت كان وراءها نظام تعليمي قوي وكل أمة انهارت كان السبب الرئيسي هو تراجع المعرفة والإبداع فيها.
هناك مفهوم آخر للصمود لا يقل أهمية وهو الصمود السياسي. الدول التي تمتلك أنظمة سياسية قادرة على اتخاذ القرارات الصعبة في الوقت المناسب دون تردد أو خوف من التغيير تكون أكثر قدرة على مواجهة الأزمات. في المقابل الدول التي تظل عالقة في الحسابات الضيقة وتخشى التجديد تجد نفسها تفقد زمام المبادرة مع مرور الوقت. التاريخ مليء بالأمثلة على دول انهارت ليس بسبب ضعف مواردها، بل بسبب سوء إدارتها.
إذا نظرنا إلى المشهد العالمي اليوم سنجد أن هناك دولًا كانت حتى وقت قريب في مقدمة العالم لكنها بدأت تتراجع لأنها لم تدرك أن قواعد اللعبة تغيرت. في المقابل هناك دول لم يكن أحد يتوقع صعودها لكنها نجحت لأنها قرأت المستقبل بشكل صحيح. العالم لا ينتظر المترددين ومن لا يتحرك بسرعة يتجاوزه الزمن. ليس المهم كيف تبدأ، بل كيف تستمر، وليس المهم أن تكون قويًا اليوم، بل أن تمتلك القدرة على البقاء قويًا في الغد.
التحديات القادمة لن تكون سهلة والمنافسة ستكون شرسة، لكن البقاء سيكون للأذكى وليس للأكثر ضجيجا. في الماضي، كان البقاء للأقوى، أما اليوم.فالبقاء للأكثر قدرة على الفهم والتخطيط والتنفيذ. الدول التي تستطيع الجمع بين القوة الاقتصادية، والتفوق التكنولوجي، والاستقرار السياسي، والتعليم المتطور، ستكون هي القوى الرائدة في المستقبل. أما من يراهن على الماضي دون أن يتعلم من دروسه، فسيرى نفسه يتراجع حتى لو امتلك كل عناصر القوة التقليدية.
الصمود في عالم متغير ليس مسألة حظ أو صدفة بل هو نتيجة طبيعية لحسن الإدارة والاستثمار في المستقبل، والقدرة على التكيف. من يملك مفاتيح الصمود اليوم هو من سيكتب التاريخ غدا.