كاتب ومقال

رؤى التحول الاقتصادي والطاقة| الذكاء الاصطناعي يلتهم الوظائف.. هل نحن أمام ثورة أم بطالة جماعية؟

في كل حقبة من التاريخ البشري كان هناك اختراع يقلب موازين العالم. اكتشاف النار، العجلة، الطباعة، الكهرباء، الإنترنت… كلها كانت ثورات غيرت شكل الحياة لكنها جميعا لم تُثِر الذعر كما يثيره اليوم الذكاء الاصطناعي. ذلك الكائن غير المرئي الذي لا يأكل ولا ينام ولا يمرض، لكنه قادر على أن يحل محل ملايين البشر في أماكن عملهم. هنا يطرح السؤال نفسه بإلحاح: هل نحن أمام ثورة تصنع حضارة جديدة، أم على أعتاب بطالة جماعية قد تزلزل استقرار المجتمعات؟

الذكاء الاصطناعي لم يعد رفاهية أو مجرد أداة مساعدة بل صار قوة إنتاجية قائمة بذاتها. في البنوك تُستبدل الطوابير التقليدية ببرامج قادرة على تقييم مخاطر القروض وتحليل بيانات العملاء في ثوان. في الإعلام نصوص تُكتب آليا وصور تُنتج من لا شيء. في المصانع أذرع آلية تعمل بدقة لا يقدر عليها الإنسان ولا تتوقف عن الحركة. وحتى في مجالات يُفترض أنها إبداعية مثل الموسيقى والرسم والسينما ظهر منافس جديد لا يعرف التعب ولا يسعى إلى أجور. كل ذلك يحدث بسرعة تفوق قدرة السياسات على اللحاق فتبدو الحكومات وكأنها تركض خلف قطار انطلق منذ زمن.

المعضلة أن الذكاء الاصطناعي لا يقتصر على إزاحة وظائف تقليدية فحسب بل بدأ يهدد المهن البيضاء التي طالما عُدت حصنا للطبقة الوسطى: المحاماة، المحاسبة، الترجمة، التدريس، التحليل المالي. تلك المجالات التي كانت تحتاج سنوات من الدراسة والتدريب باتت في مواجهة برامج قادرة على أداء المهمة بكفاءة عالية وبجزء ضئيل من التكلفة. وإذا كان التاريخ يخبرنا أن كل ثورة صناعية خلقت وظائف جديدة بقدر ما ألغت أخرى فإن هذه المرة تبدو مختلفة: الوظائف الجديدة تتطلب مهارات تكنولوجية متقدمة لا يملكها معظم البشر والفجوة المعرفية تتسع على نحو ينذر بخطر اجتماعي داهم.

الأمر أشبه بميزان يميل بشدة: الشركات العملاقة تحقق أرباحا خيالية بفضل خفض تكاليف العمالة بينما ملايين من الموظفين والعمال يقفون أمام مستقبل غامض. ما قيمة الأرباح إذا تحولت مجتمعات بأكملها إلى صفوف من العاطلين؟ وما جدوى التقدم إذا كان ثمنه اتساع الهوة بين أقلية تملك التكنولوجيا وأغلبية لا تجد قوت يومها؟ إنها ليست مجرد معضلة اقتصادية بل تهديد وجودي للنظام الاجتماعي ذاته.

ورغم هذه الصورة القاتمة لا يمكن إنكار أن الذكاء الاصطناعي يحمل وعودا مذهلة. يمكنه أن يساهم في اكتشاف أدوية لأمراض مستعصية أن يحسّن إنتاج الغذاء في مواجهة التغير المناخي أن يوفر وقتا وجهدا للبشر ليبدعوا في مجالات أوسع. لكنه وعد مشروط: مشروط بقدرة المجتمعات على إدارة الانتقال بعدالة وعلى بناء منظومة تعليمية تُخرج أجيالا قادرة على التعامل مع التكنولوجيا بدل أن تكون ضحايا لها.

المطلوب إذن ليس إيقاف عجلة التطور فهذا وهم لا يقبله التاريخ وإنما إعادة التفكير في العقد الاجتماعي الجديد. كيف يمكن توزيع ثمار الذكاء الاصطناعي بعدل؟ هل نحتاج إلى فرض ضرائب على الشركات التكنولوجية العملاقة لإعادة تمويل برامج الرعاية الاجتماعية؟ هل ينبغي تطبيق ما يُعرف بـ “الدخل الأساسي الشامل” لتأمين حد أدنى من المعيشة لكل إنسان؟ وهل تستطيع الدول النامية ومنها مصر.أن تجد لنفسها موقعا في هذه الثورة بدل أن تتحول إلى مجرد سوق استهلاكية للتكنولوجيا المستوردة؟

الذكاء الاصطناعي ليس شيطانا مطلقا ولا ملاكا مخلّصا بل أداة بيد البشر. الخطر كل الخطر أن تتحول الأداة إلى سيد وأن يصبح الإنسان عبدا لآلة صنعها بيديه. نحن نمتلك اللحظة الحاسمة لنقرر: إما أن نجعل من الذكاء الاصطناعي ثورة تحرر طاقات البشر وتفتح آفاقا غير مسبوقة أو نتركه يتحول إلى وحش يلتهم الوظائف ويزرع البطالة واليأس.

التاريخ سيكتب حكمه لكنه لن يرحم من يتقاعس اليوم. المستقبل لا ينتظر المترددين ومن يتأخر عن الركب سيجد نفسه خارج المعادلة. لقد بدأ العد التنازلي والخيارات أمامنا واضحة: إما إدارة واعية تحفظ التوازن بين التقنية والإنسان أو فوضى عارمة يدفع ثمنها الجميع. وفي النهاية سيبقى السؤال معلقا: هل نملك الشجاعة لنكون أسياد الثورة الجديدة أم سنترك أنفسنا مجرد ضحايا في عصر البطالة الجماعية؟

بقلم:
شحاتة زكريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى