كاتب ومقال

عزف منفرد| مصر التي

بقلم: هيثم الحاج علي

لم تكن مصر مجرد أرض يجتمع عليها شعب كما هو تعريف الدولة وإن كانت هي الدولة الأولى في التاريخ التي تحققت فيها جوانب التعريف، فربما اجتمع كثير من العوامل والظروف التي تجعل من هذا الاسم تعريف قائم بذاته له من عناصر الهوية ما يستعصي وجوده في أي وطن آخر أو حالة ربما تبدو لبعض الناظرين أنها مشابهة، فالهوية المصرية بها من المكونات ما يجعلها فريدة نوعا ما فهي هوية قادرة على صنع تراكمها الخاص في التاريخ كما أنها تحافظ على مكونها الجغرافي ولذلك فإن هذا المربع من الأرض الممتدة بين البحرين كانت هي مصر المعروفة منذ فجر التاريخ، وحتى في أكثر فترات الإمبراطوريات المصرية على مدار التاريخ قوة لم يكن هناك من يكسر هذه القاعدة بالرغبة في التوسع الجغرافي لتظل هذه الأرض بحدودها الثابتة عكس كل ما عرفناه من دول أخرى على مدار التاريخ.

ربما لهذا السبب ولغيره أيضا كانت الهوية المصرية هوية جاذبة طاغية على كل من مر عليها من ثقافات وأشخاص وحتى في أشد فترات التاريخ المصري ضعفا ما يجعل من هذه الأرض نهبا لاحتلال ما فإن الهوية المصرية بقيت هي المدافع الأول عن هذا الوطن بتعريفه الأصيل وربما نجد في التاريخ أمثلة كثيرة على ذلك من قمبيز والإسكندر والهكسوس وهي الأمثلة التي تجعلنا نحكم بمنطق مطمئن على الشعب المصري أنه شعب ذا هوية صلبة تكمن في داخله و يبقى متمسكا بها محافظا عليها بوصفها العامل الأهم لديه في البقاء بما يجعله يستشعر الخطر الحقيقي عندما يتم استهداف هذه الهوية.

فإذا كان تعريف الهوية ينطوي على المكونات الثقافية أو بالأحرى الطريقة التي يعرف بها الفرد نفسه وهي الطريقة التي تحتوي على عديد من العناصر والمعتقدات وطرق العيش وسبل النظر إلى الذات فردا ومجتمعا وإلى الآخر فإن هذه الهوية كذلك هي ما يجعل الإنسان في حال الاستفزاز عندما تتعرض تلك الطريقة في الحياة لاعتداء ما وهو ما يمكن أن نفسر به قيام ثورة يونيو التي كانت دفاعا عن هوية المصريين وطريقتهم في الحياة ورؤيتهم لها حين شعر المصريون بأن نظاما دخيلا حاول قتل سلامهم الاجتماعي ونفي بعض عناصر هذا المجتمع بعنف ربما تجلي بعضها في محاولات الهجوم على مقامات الأولياء أو الكنائس وحتى في الترويج لحرمة بعض العادات المصرية القديمة مثل شم النسيم، حيث يمكن النظر إلى كل هذه العناصر بوصفها طبقات الهوية المصرية المتراكمة في داخلها عبر التاريخ والتي تصنع منها رؤية فريدة يرى بها المصريون حياتهم ويتعاملون معها بوصفها طريقتهم في الحياة.

ولطريقة المصريين في الحياة – هوية وثقافة – شكلها الخاص الذي يجعل منها العنصر المهيمن الذي يصبغ كل عنصر دخيل وإن طال الزمن به، إنها تلك الطريقة الضاربة بجذورها في عمق التاريخ وإن ظهر للبعض في بعض الأحيان أنها غير قادرة على الصمود فإن أحد هذه الجذور ينبت من جديد لينتج ثمرته الجديدة أو يلون غصنا يبدو دخيلا بلونه المصري وهي إحدى أهم عناصر بقاء نواة هذه الهوية باقية على مدار قرون لا تتغير لكنها قادرة على أن تكون مرنة لتمتص كل جديد صالح للتعايش مع أصلها وربما تفسر تلك المرونة كيف أن المصريين يتسامحون مع التغيرات غير الجوهرية بالقدر الذي يتقبلون فيه الغرباء بشرط ألا يمثلوا اعتداء على هذا الأصل الثابت، وهو الأمر الذي يمكن أن يصلح مدخلا لنقاش أهم جوانب هذه الهوية كما تظهر في حياة المصريين اليومية بما يجعلها تعبر عن تلك الرؤية الفريدة للحياة والتي تتجلى في طريقة متكاملة للنظر إلى العالم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى