لنقرأ معًا رؤية مصر 2030.. لماذا تبحث الأمم عن مزيد من الثقافة والحضارة معًا؟
كل دول العالم المتقدمة، تصنع لنفسها المستقبل، بمعنى آخر تصنع لنفسها التاريخ الذي يبنى على كلمتين هما الحضارة والثقافة، الحضارة هي التكنولوجيا والأدوات التي نستخدمها من أجل تسهيل حياتنا، والثقافة لها مدلولات كثيرة، ولكنها أيضا في عدد من تعريفاتها تعني السلوك القويم والفكر المبدع والقراءة الفاحصة، كما تعني أيضا العادات والتقاليد، وتعني كذلك القدرة على تجاوز الفجوات والمشكلات، والثقافة أتت في اللغة العربية من مصدر ثقف ويعني تهذيب الرمح، وفي اللاتينية أتى المصطلح Culture بمعنى ثقافة من مصطلح الزراعة Agriculture لكن الزراعة تعني تقليب التربة بهدف وضع بذور جديدة لتنمو، والثقافة في تعريفها لا تختلف كثيرا عن هذا المعنى، إنها أفكار كثيرة تحتاج لعقل جيد لاستيعابها واستخدامها في حياته الفكرية واللغوية.
من هنا نلاحظ اهتمام الدول المتقدمة وحتى النامية بالثقافة التي تشمل الأدب والفنون بكل أنواعها، والأنثروبولوجي (علم الانسان)، وعلم الاجتماع والفلسفة والعادات والتقاليد والأمثال الشعبية والسينما والمسرح وغيرها، إنها تشبه العلوم الإنسانية في مجملها؛ فتتناول كل ما يتعلق بالفكر والعقل الإنساني، وتختلف عن الحضارة التي تقترب من المفهوم المادي المتعلق باحتياجات الإنسان المادية في الحياة من مأكل ومشرب وحركة واتصال وأدوات تساعده على ذلك، من هنا وفي العالم الذي نعيشه نحتاج إلى المصطلحين كي نستطيع أن نتقدم. وفي كثير من الأحيان تقود التكنولوجيا الثقافة فتغيرها، ولعلنا نلاحظ ذلك في بداية القرن العشرين مع صعود حركة التصنيع ومن ثم التحديث في كل المجتمعات، ومن ثم كان لزاما على ثقافة المجتمعات شبه البدائية أن تتغير، وفي السبعينيات حدث تحول مجتمعي آخر يسمى بظاهرة ما بعد الحداثة التي انتصرت للإنسان بينما الحداثة انتصرت للآلة، كما ظهرت تكنولوجيا المعلومات والحاسب ومن ثم يطلق أحيانا على هذا العصر عصر المعلومات ويغالي البعض بتسميته عصر المعرفة والحكمة، بينما يكون البعض أكثر غُلوا ويسمونه عصر أفكار الآلة على اعتبار أن الآلات ستسيطر على حياتنا كلها في المستقبل، إلى الدرجة التي ستكون فيها قادرة على التفكير وجعل الحياة أفضل بكثير مما هي عليه الآن، وسواء صدقت ذلك أم لم تصدقه، فالأمر يعود إليك في النهاية، بقدر الثقافة والعلم اللذين حصلتهما وبقدر ما تتمتع به من خيال.
هل سألت نفسك يوما، ما علاقة رؤية مصر 2030 بكل ذلك؟، ربما للمرة الأولى في التاريخ يكون لمصر رؤية مستقبلية على مدى عقد كامل (عشر سنوات) وهي فترة ليست بالقصيرة في حياة الأمم، فماذا تريد مصر أن تصنع في المستقبل وبعد ست سنوات من الآن وماذا صنعت في الخمس سنوات السابقة وكيف ترى المستقبل؟
حددت مصر في هذا الوثيقة ماتريده؛ فمن أجل التخطيط للمستقبل وتطوير الموارد البشرية اعتمادا على المعرفة والمعلومات التي تتزايد كل دقيقة، واعتمادا أيضا على الابداع والمرونة في تصحيح المسار الوطني عند حدوث أي خروج عن الطريق المرسوم لأسباب مختلفة، وكذلك من أجل أن يكون لمصر دور يليق بها، باعتبارها لاعبًا أساسيًا على المستوى الدولي وفي كل الأحداث التي تمر على العالم في المجالات السياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية وحتى الترفيهية.
بل إن الهدف الأساسي الذي تدور حوله رؤية مصر 2030 يؤكد على أهمية أن تكون مصر ضمن أهم 30 دولة على مستوى العالم (في مؤشرات السعادة والتنافسية والاقتصاد)، وفي كثير من المجالات التي وردت في أكثر من صفحة داخل التقرير عند الحديث عن المؤشرات كأن تكون مصر ضمن أهم 40 دولة في مجال الابتكار، أو من أفضل 20 دولة في مجال براءات الاختراع أو عدد البحوث المنشورة دوليا في الجامعات، أو في مستوى البحث والتطوير R&D أو حماية الملكية الفكرية أو البحث العلمي، أو زيادة نصيب البحث والتطوير في موازنة الدولة والتعليم العالي، وعلى سبيل المثال وصلت مصر إلى أن تكون موازنة التعليم العالي والبحث العلمي 1.2% من موازنة الدولة، حيث كانت 01. % منذ أقل من عقد ونصف.
تنطلق رؤية مصر 2030 من أجل التخطيط للمستقبل بهدف تطوير الموارد البشرية اعتمادا على المعرفة والابداع والمرونة في إعادة تصحيح المسار الوطني في هذه الاتجاهات دائما، وتوفير مجال أوسع وأطول لرؤية المستقبل، وبناء حالة من الانتماء الذاتي لمواجهة الصعاب، وإدراك إمكانات مصر وميزاتها التنافسية وتحديد أدوارها في المحيط العالمي، وإيجاد عمق برلماني لمراقبة تنفيذ استراتيجية الدولة، والمرونة في بناء تحالفات عالمية لمواجهة الأخطار الدولية والإقليمية والمحلية (سواء ذات الطبيعة الدائمة أو ذات الطبيعة المؤقتة أو تلك العشوائية) وإدارة الأزمات واستشراف المستقبل؛ بل ترى الرؤية أن بناء مكتبة عامة ونادي علوم في كل قرية مصرية بنهاية الخطة، والحق في الوصول للمعرفة لكل مواطن، وخفض الفجوة الرقمية، وتزايد حجم الإنتاج المعرفي المترجم، ووضع برامج ثقافية موجهة لدول بعينها، وزيادة عدد المدن الثقافية داخل مصر وربطها بالمنتدى العالمي للمدن الثقافية، واضافة مواقع جديدة مسجلة ضمن التراث العالمي، وبناء مؤشرات ثقافية شاملة وموحدة.
منذ الخمسينيات وما قبلها كانت تعمل مصر تعمل وفق استراتيجيات قصيرة أو متوسطة الأجل تقع بين 3 سنوات إلى 7 سنوات، ومن الواضح أن ذلك لم يثمر كثيرا بسبب أن هذه الاستراتيجيات لم تكن مرنة بما فيه الكفاية لتتوافق مع التغيرات العالمية، وهو ما يمكننا أن نقول معه إن رؤية مصر 2030 ارتبطت بثلاثة أمور جوهرية، هي التنمية المستدامة والحوكمة والمحاسبة، بمعنى أننا حين نبني شيئا وليكن مبنى، فإن هذا المبنى بعد عام واحد من بناءه سيحتاج لصيانة دائمة إن لم نوفرها ففي خلال 30 عاما سيتحول هذا المبنى إلى أطلال فكيف نوفر هذه الصيانة بشكل مستمر؟، ومن أين نحصل على أموالها؟ وما الجودة اللازمة للصيانة وفاعليتها؟، كل ذلك توفره التنمية المستدامة؛ أما الحوكمة فتعني ببساطة كيف يمكننا أن نضع مؤشرا كمية ونوعية للإفادة من هذا المبنى وتنمية موارده وتنمية طريقة استخدامه بأفضل طريقة ممكنة، أما الأمر الثالث فهو المحاسبة وتعني أيضا وببساطة من يمكن محاسبته على التزامه بالمؤشرات والتنمية المستدامة والاستخدام وفعالية الاستخدام وكفاءته.
هذه المؤشرات وغيرها هي ما تقود الأمم الآن في كل ما تقوم به، وعودة للثقافة والحضارة فإن مثل هذه الرؤية المصرية تحاول بناء ثقافة جديدة للمجتمع وأيضا تحاول توصيله إلى درجة عالية من التكنولوجيا التي سوف تقدم نوعا من الرفاهية للمواطنين، فرؤية المجتمع ستصب في مصلحته وفي سعادته، وكل المجتمعات والدول المتقدمة والنامية الآن تسعى لذلك، وتتسابق من أجل ذلك، فمؤشر المساعدة يصنع الكثير للمجتمع، يصنع الانتماء ويكثف من الإحساس بالهوية، كيف نجعل المواطنين سعداء، وكيف نزيد من قدراتهم الفردية والمؤسسية على التنافس، ولا يتم ذلك إلا بدعمهم ودفعهم للابتكار والتجديد والبحث عن المواهب وتبنيها، ليس ذلك فقط؛ فلا يمكن أن يتم ذلك دون اقتصاد قوي، ولا يمكن جعل الاقتصاد قويا دون مؤشرات تساعد على نهوضه وقيامه بواجباته.
إن كل دولة متحضرة الآن لها رؤية ولها سواعد تساعد على تنفيذ هذه الرؤية ووضعها موضع الحقيقة، كن ساعدا في هذه الرؤية، فلن ينطلق الركب إلا بأن يشمر كل منا عن ساعده ويضع لبنة في رحلة التنمية والبناء.