كلمة ورد غطاها| يقال ويتردد
للأسف الشديد فإن “الحقيقة”، تلك الغاية المنشودة، ليست مدركة دائمًا، بل يمكن القول إنها نادرًا ما تدرك تمامًا في أي مجال أو أي موضوع. والباحثون عنها قد يقتربون أو يبتعدون عنها بحسب الموقف والظروف والملابسات والأدوات المستخدمة في محاولة التحقيق والتحقق. فالامر يعترضه الكثير من العوامل، أو فلنقل العوائق، منها تعدد أوجه الموضوع وقراءتها وفهمها. كما يشمل الأمر أيضًا نوايا البشر وما يحاولون الإيحاء به وتناقل المعلومات عبرهم وعبر الزمن أيضًا.
ولكي لا نصعب الأمر، دعونا نأخذ مثالا مبسطًا: تخيل وجود خمسة أشخاص في غرفة مغلقة وأنت بالخارج، ثم فجأة تسمع صياحًا وجلبة، وفجأة ينفتح الباب ويخرج أربعة منهم فقط. ثم عندما تدخل الغرفة، تجد الشخص الخامس مشنوقًا إلى سقف الغرفة.
الحقيقة الوحيدة هي أن هذا الشخص قد فارق الحياة، أما ما دون ذلك من وقائع وأحداث فسوف يعتمد على أقوال الأربعة الآخرين وتفتيشهم وفحص مكونات الغرفة وجثة المشنوق. وهي إجراءات ستصل بك إلى درجة من الحقيقة، قد تكون درجة عالية أو متوسطة أو منخفضة، ولكن حتمًا لن تصل إلى الحقيقة الكاملة. هذا المثال، على بساطته، يوضح صعوبة الأمر. أضف إليه عامل الزمن، أن يكون هذا المثال قد حدث منذ عشرات أو مئات السنين، وأن كل ما تحاول أن تعرفه أتى من كتابات وشهادات شفهية تم تناقلها عبر الزمن.
وللأسف، فإنه وسط حالة عدم اليقين التام التي هي من سمات الحياة، فإن البعض يستغل ذلك لينصب نفسه “العارف بالحقيقة” بعلم هو منقوص بطبيعته أو بغير علم، باستخدام وسائل التأثير النفسي المستهلكة التي لا تخيب في أغلب الأحيان.
من تلك الوسائل الاستشهاد بالأموات أو تزوير مخطوطات قديمة أو خلط الأمور أو إضافة وقائع لم تحدث أو معلومات غير سليمة، ومحاولة إضفاء الشرعية عليها، واستخدام تعبيرات مثل “يقال إن…” أو “يتردد بقوة أن…” إلى آخره.
في العصر الحالي، تطور الأمر بدخول التقنيات الحديثة، أبسطها نشر الأكاذيب في عدة مصادر، مما يجعل الباحث عن الحقيقة يشعر بأن الكذب حقيقة. فهو سيقوم بالبحث في عدة مصادر ويجد نفس المعلومة، وهو ما سيعطل غدة المنطق لديه عن العمل، أو يتم تزوير الكتابة والأصوات والصور ومقاطع الفيديو فيما يعرف بالتزييف العميق (Deep Fake)، وهو أحد مخاطر التقنيات الحديثة وخاصة الذكاء الاصطناعي.
من أساليب الخداع أيضًا، اجتزاء المعلومات أو خلط جزء سليم بأجزاء مغلوطة لتقدم إلى العقل في صورة وجبة مقنعة وشهية. والحقيقة أن وجودنا في عصر الأكاذيب الكبرى يحتم علينا أن نبدأ أولًا بعدم التصديق، ثم نقوم بعد ذلك باستجلاء الأمر من مصادر أخرى وتمريره على العقل والمنطق، وعلى القلب أيضًا، علنا نقترب كثيرًا من الحقيقة المطلقة… الغائبة دائمًا.