إبداعات كلمتنا| “قدرة قادر”

دخل محل الحلواني الشهير وهو متردد ومرتبك وبداخله شعور ضخم أن كل زبائن المحل يراقبوه رغم مظهرهم الموحي بإنشغالهم بشراء الحلويات، إقترب من أحد الباعة وسأله بصوت مرتعش خفيض،
– عندكم قدرة قادر؟
إبتسم البائع بترحاب وتحرك بأداء إستعراضي نحو أحد أرفف العرض الكهربائية وأشار له بفخر نحو طبق مستدير بقاعدة ذهبية اللون،
– أحلى قدرة قادر تستاهل بقك يا باشا
إزداد توتره وتضاعف إرتباكه وهو يتحرك وإقترب من البائع مرة أخرى وواصل الحديث معه بنفس الصوت الخفيض وهو يتحاشى النظر خلفه حتى لا يرى نظرات باقي الزبائن وشعوره بأنهم يراقبوه أضعاف لحظة دخوله،
– ممكن قطعة أدوقها؟
إنتقلت عدوى الإرتباك للبائع وإبتسامته تتلاشى من وجهه،
– آسف جدًا الصينية بتتابع على بعضها حتة واحدة
لم يستطع منع نفسه من خطف نظرة خلف ظهره نحو أعين زبائن المحل وأومأ برأسه معلنًا تفهمه ورغبته عملاقة في إنهاء الموقف وسرعة الشراء والخروج من المحل،
– تمام.. تمام، لفهالي لو سمحت
إبتسم عم خليفة حارس العقار بفرحة فور أن لمح الأستاذ يعود وهو يحمل علبة الحلويات وتحرك بخطوات سريعة نحو السلم الخلفى للبناية، دقائق وخرج الأستاذ من باب المطبخ الخلفي وألقي بالعلبة بالخارج، لا جديد عن كل مرة يعود فيها حاملًا حقيبة عليها إسم محل حلواني شهير، يدخل شقته وبعدها بدقيقة أو إثنان على الأكثر يُلقي ما إشتراه كما هو، فقط نقص منه قطمة واحدة،
عم خليفة لا يعرف إسم نوع الحلوى وكل الحلويات عنده تحمل إسم واحد ينطق به وهو يقدمه لزوجته وأبناءه -بغاشة- بسعادة ويشاركهم في الأكل بأصابعه دون شوكة أو ملعقة، زوجته فقط هى التي إهتمت وصارعت حتى إستطاعت الحفاظ على قطعة من طبق الحلويات قبل تمام إلتهامه وصعدت لشقة الدكتورة منال تطلب منها معرفة إسم نوع الحلوى وطريقة عملها،
دفع الفضول الدكتورة منال لمعرفة سبب رغبتها في المعرفة ومن أين حصلت عليها، زوجة خليفة سيدة كتومة بشكل معروف لجميع سكان البناية ولا تُخرج سر واحد من أسرار السكان، جلست أمامها وقصت عليها بالتفصيل الممل كل شئ يخص طبق الحلوى، وكيف أن الأستاذ منذ فترة يشترى الحلوى وبمجرد دخوله لشقته يُلقي بها في الخارج بعد أن يأخذ منها قطمة واحدة فقط، شردت منال للحظات ثم بطيبتها المعهودة أخبرتها أن إسمها “قدرة قادر” وفي عجالة أخبرتها بطريقة عملها، بعد خروجها من شقتها قامت بالإتصال بجارتها هند صاحبة الضحكة المميزة الرنانة وقصت عليها كل ما سمعته من زوجة خليفة،
هند المعروفة بذكائها تنهدت بشجن وقالت “الله يرحمك يا ميادة”، شاركتها الدكتورة منال في الدعاء لجارتهم الراحلة ميادة زوجة الأستاذ وطلبت منها التفسير، ميادة كانت معروفة لهم بمهارتها في صنع الحلويات وبالأخص قدرة قادر التي كان مفتونًا بها زوجها الأستاذ، الرجل بعد رحيلها وفق رواية زوجة خليفة لا يمر عليه أسبوع دون أن يشتري صينية كاملة وبعد دقيقة يرميها خارجة شقته، بحث عن مهارة ونفس ميادة في كل محلات الحلواني الشهيرة ولم يجد أبدًا نفس الطعم أو إستطاع أمهر الشيفات الإقتراب منه،
أنهت منال المكالمة وجلست شاخصة تتذكر ميادة وطيبتها وحُسن جيرتها وقررت أن تصنع صينية بيدها وتقدمها لجارهم الأستاذ الأرمل، هى الاخرى تملك مهارة صُنع الحلويات، أتمت عمل الصينية وذهبت بنفسها لشقته وهى تقدمها له بحجة واهية عن نجاح إبنها وإنهاءه ثالتة إبتدائي بنجاح غير مسبوق،
إرتبك الأستاذ وهو لا يفعل شئ سوى الإرتباك منذ رحيل زوجته المفاجئ، بكلمات متلعثمة عشوائية قام بشكرها والدعاء لإبنها بمزيد من النجاح والتفوق ولكنها فاجئته بحماسها وهى تطلب منه أن يتذوق صنع يدها ويخبرها برأيه، لم يرغب في إحراجها وقام بتذوق قطعة صغيرة وهو يقاوم رغبة عارمة في البكاء، شعرت به منال ولم ترد أن تثقل عليه وإكتفت بسماع عبارت ثناءه الزائفة وتركته وعادت لشقتها،
عادت بعد أن عرفت بحسها الأنثوي أن الأستاذ لم يكن يبحث عن مذاق مشابه لطريقة زوجته الراحلة في صناعة الحلويات، بل كان يبحث عنها هى نفسها، يبحث عن ذلك الشعور المفقود برحيلها دون جدوى ودون أن يجده في أشهر وأكبر المحلات،
تساقطت دموعه بشكل غير منتظم حتى الباب الخللفي للمطبخ وهو يًلقي بصينية الدكتورة منال وبعدها بلحظات بقدرة قادر ظهرت زوجة خليفة وحملت الصينية بفرحة وهرولت نحو حجرتها في مدخل البناية وأصبحت صينية الدكتورة منال هى رقم خمسة من صنع الجارات من أجل مواساة الأستاذ ولكنهم لم يحصلوا على شئ غير إشعاره بلوعة كبيرة ويقين تام بأن لا أحد يمكنه صنع قدرة قادر مثل زوجته الراحلة.