في أواخر القرن التاسع عشر ازداد الولع الأوروبي بالشرق خاصة مع موجة الاستعمار الغربي، حينها بدأت موجات الرحلات الأوروبية التي يقوم بها مستكشفون ورحالة حاولوا خلالها التعرف على الشرق وتاريخه وعاداته وكنوزه.
من هؤلاء كان الدبلوماسي الإنجليزي السابق وولفرد بلنت، المولود في 1840 والذي قرر فور إعلان تقاعدهفي عام 1881 السفر إلى مصر والجزيرة العربية مصطحبا زوجته آن التي سجلت مشاهداتها وانطباعاتها في كتاب من أهم كتب الرحلات هو الحج إلى نجد، والذي نشرت ترجمته في مصر في عام 2008، بترجمة د صبري محمد حسن ومراجعة رؤوف عباس.
وعلى الرغم مما بدا في هذا الكتاب من أهداف استعمارية في الأساس حيث كان الزوج وولفرد مكلفا بإتمام دراسة عن إمكانية إقامة سكك حديدية في الجزيرة العربية تربط بين جنوبها والعراق في الشمال، للمساعدة في نقل البضائع وقوات الاحتلال، وبحيث تعين هذه الدراسة على اتخاذ قرار إرسال قوات بريطانية لتلك المنطقة.
على الرغم من ذلك، ومع ذلك الإعجاب الشديد التي أظهرته آن بلنت خصوصا في زيارتها إلى مصر التي اختارت أن تقضي حياتها فيها حين استقرت في مزرعة اشترتها بالقرب من القاهرة عام 1915، فقد كان للكتاب جانب آخر مهم.
كان وجود الزوجة في أثناء الرحلة سببا مهما لمعرفة المجتمع العربي من الداخل حيث كان مسموحا لها الجلوس في مجالس الرجال بوصفها أجنبية وضيفة، كما كان مقبولا أن تجالس النساء في مجالسهن الخاصة، وهو ما أتاح لها رؤية جوانب المجتمع كلها، وكان مما أشارت إليه ذلك الحوار الذي دار بينها وبين أحد مشايخ القبائل العربية حين سألته عن كيفية التصرف حيال جرائم القتل، فأشار إليها بفكرة الثأر، وكيف أنه يتربص بهدفه في الليل ثم يقتله غيلة، فاستهجنت الضيفة الأجنبية ذلك موضحة أن لذلك تقاليد أخرى في أوربا مثل رمي المنديل في وجه الخصم ودعوته إلى المبارزة، معقبة أن في ذلك معنى الشرف الحقيقي.
هكذا كانت رؤية المستعمر، الذي يرى أن القيمة الثقافية الخاصة به هي القيمة الأكثر صلاحية للتعبير عن قيم الإنسانية، وأن كل القيم الأخرى هي قيم تحتاج إلى تعديل.
لسنا بالطبع في معرض مناقشة فكرة الثأر، وبيان أنها فكرة مناهضة لأي قيمة إنسانية أو قانون، لكن المراد هنا هو بيان الفرق بين الآلية الشرقية والغربية في الأخذ بالثأر، وكيف أن المستعمر كان يستغل في تفوقه العسكري وربما العلمي والصناعي ذريعة لكي يصدر قيمه بوصفها الأكثر صلاحية للإنسان، متناسيا أن كل مجتمع له آلياته وقيمه الخاصة.
وهي نفسها الفكرة التي قامت عليها فكرة العولمة في الستينيات، والتي بدأ استكمال تطبيقها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في نهاية الثمانينيات، من حيث محاولة خلق النمط العالمي للإنسان، وهدم الهويات والقوميات من أجل توحيد هذا النمط، الذي سيقوم بالضرورة على قيم هي في الأساس غربية، قامت على أساسها القوى الرأسمالية الكبرى ببناء شركات عابرة للقوميات تعبر عن ذلك السائد الغربي، بعد إقناع الجميع عن طريق الآلة الإعلامية الغربية بأن هذا النمط هو المعبر عن الحضارة الحديثة.
إنها الفكرة الاستعمارية نفسها ولكن في ثوب جديد لامع، وهي الفكرة التي يجب علينا التصدي لها لخلق عالم يقبل الاختلافات القيمية، ويحترم الهويات والقوميات المتعددة، وهو دور من الضروري أن تكون مصر هي لاعبه الأساسي خاصة بما تحمله مصر من جذور تاريخية قادرة على الثبات أمام تلك المتغيرات.