كاتب ومقال

دار في خاطري| ذكرى تلك الليلة

ها هو الشتاء يبسط يده بالخير على الكون، فها هو المطر يهطل بغزارة فيغسل وجه الأرض، وها هي الأرض على أتم الاستعداد لترتدي ثوبها الأبيض الذي يهديه لها الشتاء في مثل ذلك الوقت من كل عام.

وفي مثل ذلك اليوم منذ خمس سنوات كانت بداية قصتي التي وددت تدوينها، لا! لم يكن مثل ذلك اليوم هو البداية الحقيقية، ولكنه البداية التي أردت أن أبدأ عندها قصتي.

منذ خمس سنوات قدمت لي صديقتي فرح دعوة للمشاركة في أمسية شعرية قامت بتنظيمها هي وعدد من زملائها، فهي تعلم أنني أجيد نظم الشعر وإلقائه، وقالت لي: إذا قبلت دعوتي فإن هناك مفاجأة في انتظارك يا ميار، فكرت ونظمت شعرا رومانسيا لأقدمه في الأمسية، وظننت المفاجأة هي جائزة قيمة لأفضل قصيدة شعرية.

ولكن المفاجأة خالفت كل الظنون، لقد كانت أفضل من أي هدية تقدم لي، فلقد كان الشاعر شريف بدر الدين مشاركا في تلك الأمسية، إن مقابلته كانت بمثابة حلم بالنسبة لي، وفي تلك الأمسية قرر شريف أن يختار شاعرا أو شاعرة ممن شاركوا معه في تقديم قصائد شعرية ليرتجل معه شعرا يقدم للحاضرين، وسوف يختار الشخص بحسب القصيدة التي راقت له.

لم أصدق ماذا حدث وقتئذ، فقد علت دقات قلبي وتسارعت، وتسللت السعادة التي ملأت قلبي إلى وجهي لترسم ابتسامة رضا لاحظها الجميع، وذلك حين قال شريف: لقد وقع اختياري على الدكتورة ميار، فلقد قدمتني فرح بوصفها لي بالطبيبة الشاعرة.

ارتجلنا شعرا أمام الحضور فكان من أجمل ما نظمت، لم أكن أتخيل يوما أن باستطاعتي ارتجال الشعر خاصة وأنا أنظمه برفقة شخص آخر، ولكن ما قدمناه فاق كل التوقعات، فذلك ما قاله لي شريف بعد إنتهاء الأمسية الشعرية.

عدت بعدها إلى البيت والسعادة تغمرني، فلقد إلتقيت بشريف بدر الدين، وأعجبته قصيدتي من بين جميع القصائد المقدمة، وقدمت معه قصيدة، وتحدثنا سويا لبعض الوقت، وفي النهاية حصلت على رقم هاتفه الخاص، فيا لسعادتي.

مرت أيام كنا نلتقي ونتحدث كثيرا عبر الهاتف، فظننت أن سعادتي سرمدية، إلى أن أتى يوما حدث فيه ما لم يخطر لي على بال.

لقد كنت في ذلك اليوم في المستشفى فطلب مني رئيسي أن استعد بسرعة لأرافقه في غرفة العمليات، لإنقاذ شخص ما أصيب في حادث سيارة، وفي غرفة العمليات كانت الصدمة، لقد كان شريف هو ذلك المصاب.

تمالكت أعصابي فهذا ما يجب على كل طبيب يمر بمثل ما مررت به حتى انتهت الجراحة، واطمأننت بأن حالته الصحية مستقرة، فشعرت بأن الخطر قد زال.

وفي اليوم التالي ذهبت إلى غرفته فرأيت على وجه صديقه سامي الذي كان مرافقا له علامات القلق والاضطراب، فسألته هل حدث شيئا ما؟ فسمعت شريف ينادي باسم فتاة تدعي ماري، فقال سامي: منذ أن استفاق من التخدير وهو يكرر ذلك الاسم.

عندئذ سألته عن حاله قائلة: شريف حمدا لله على سلامتك، كيف حالك الآن؟ فنظر إلي ولم يرد، فأعاد سامي عليه سؤالي، فكرر الفعل نفسه، فشعرت بشيء ما غريب، فذهبت وأخبرت الطبيب رئيسي.

بدأ الطبيب يتحدث إليه ليعرف ما به حتى أخبره شريف بأن اسمه هو يوسف، وهنا كانت الصدمة الكبرى بالنسبة لي، إنه فقدان الذاكرة ولكن من ماري؟! ومن يوسف؟! هذا ما كان يحيرني.

سألت سامي عن ماري هذه أو يوسف، فأخبرني بأنه لا يعلم أشخاصا حقيقيين بهذه الأسماء، فسألته ماذا يقصد بحقيقيين؟ فقال: إن شريف قد كتب رواية رومانسية لبطل يدعى يوسف قد أحب فتاة فرنسية تدعى ماري، وتدور أحداث الرواية حول اختفاء ماري ويبدأ يوسف في طريقه للبحث عنها حتى يتضح في النهاية أنها كانت قريبة منه طول الوقت، فسألت سامي: متى كتبها؟ قال: منذ عام فور عودته من باريس.

وعندئذ شعرت بأن تلك الرواية لم تكن من نسج خيال شريف، بل هي قصة واقعية ربما عاش أحداثها شريف نفسه، ولكنه اختار لنفسه في الرواية اسم يوسف، ولكن ربما حدث تغيرا في الواقع عن الرواية وهو أنه لم يجد الفتاة التي أسماها ماري، فهذا أقرب تفسير راق لعقلي ليبرر لي تعلقه بي قبل الحادث، وإن لم يكن هذا التصور صحيحا فعلي أن أتقبل الأمر الأشد قسوة على الإطلاق وهو أنه لم يتعلق بي وأن ما شعرت به ليس حقيقيا، بل هو ما تمنيته لأنني أحبه.

استغرق العلاج فترة طويلة كان ما يؤرقني هو أن شريف لا يعرفني، لم يعاملني كما كان يفعل من قبل، فكنت أقول لنفسي إن ذلك بسبب حالته الصحية، وفي أحيان أخرى أقول إن هذا الإنسان يوسف وليس شريف، أما سامي فكان يبحث دائما في أمر الرواية التي عاش شريف فجأة بداخلها، ويبحث له عن ماري التي دائما يسأل عنها.

أما أنا فكنت في مثل هذا اليوم من كل عام احتفل بلقائنا الأول، واستعيد الذكريات، تلك الذكريات التي تساعدني في مواجهة واقعي الغريب الذي لا أعلم إلى أين هو ذاهب بي.

واليوم وبعد مرور خمس سنوات وصلتني رسالة على هاتفي محدد فيها مكان وزمان للقاء، إن الرسالة وصلتني من هاتف شريف الذي انقطع وصول الرسائل منه منذ الحادث، فلم أفكر في أي شيء وذهبت في الموعد، لأجد شريف في انتظاري.

ما إن ألقيت عليه التحية حتى قدم لي باقة من الياسمين، تلك الزهرة الجميلة التي أحببناها ومعها هدية من الكريستال وقال لي: أحبك ميار، شعرت بسعادة لا توصف وقلت له: وأخيرا تذكرتني، قال: وكيف أنساك وأنت بجانبي في كل مكان، في أوقات العلاج وأوقات الفراغ، حتى في أحلامي كنت أنت من تمحين تشوش ما أرى، وفي يقظتي تمحين تشوش أفكاري، لا أعلم كيف حدث ما حدث ولكن أريد طمأنتك بأن الرواية لا أصل لها في الواقع، بل هي فكرة خطرت ببالي حين كنت في فرنسا، ولكنني تأثرت بها كثيرا، ربما لأنني أشبه يوسف حين كان يبحث عن ماري، وربما لأنك تشبهين ماري، فلقد اكتشفت أنني أبحث عنك طول الوقت وأنت بجانبي.

وها أنا الآن أسجل تلك القصة في هذه الليلة التي كتب لي فيها السعادة، لأقر بأنها ليلة سعادتي التي جمعت بين الماضي والحاضر.

بقلم:
ريم السباعي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى