رؤى التحول الاقتصادي والطاقة| مدريد والقاهرة.. شراكة استراتيجية في زمن التحديات

في قلب المشهد الدولي المضطرب تتجه أنظار العالم إلى العلاقات التي تصنع الفارق ، تلك التي لا تقوم على المصالح العابرة فحسب بل تمتد إلى شراكات استراتيجية تبني الجسور بين الحضارات. ومصر وإسبانيا رغم الفاصل الجغرافي تجمعهما روابط ضاربة في عمق التاريخ وتحولات سياسية واقتصادية تجعل التقارب بينهما ضرورة لا رفاهية.
جاءت زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى مدريد لترسم ملامح عهد جديد في العلاقات بين البلدين حيث لم تكن مجرد لقاءات بروتوكولية، بل محطة مفصلية تعكس وعيا استراتيجيا بضرورة الارتقاء بهذه العلاقة إلى مستوى الشراكة الحقيقية. لم يكن حديث الملك فيليب السادس عن مصر باعتبارها “ركيزة أساسية في العملية الأورومتوسطية” مجرد مجاملة دبلوماسية بل تعبيرا دقيقا عن مكانة القاهرة في المشهدين الإقليمي والدولي.
شراكة تتجاوز الاقتصاد
إذا كان التبادل التجاري بين مصر وإسبانيا قد شهد نموا مطردا خلال العقد الأخير ، فإن طموح الشراكة بينهما لا يتوقف عند الأرقام ، بل يمتد إلى بناء نموذج تعاون مستدام في مجالات الطاقة المتجددة، والتكنولوجيا، والصناعات الاستراتيجية. فإسبانيا التي تعد واحدة من القوى الاقتصادية الصاعدة في أوروبا ترى في السوق المصرية بوابة لنفاذ أوسع إلى إفريقيا والشرق الأوسط بينما تدرك القاهرة أن مدريد يمكن أن تكون حليفا مؤثرا في نقل الخبرات الصناعية والتكنولوجية الأوروبية إلى المنطقة.
لكن ما يميز هذه الشراكة هو بعدها السياسي والاستراتيجي، إذ تتلاقى مواقف البلدين في العديد من القضايا الحيوية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية. ففي وقت تسعى فيه بعض القوى إلى فرض واقع جديد في الأراضي المحتلة، تتمسك مصر وإسبانيا بالمبادئ الراسخة للقانون الدولي وترفضان محاولات التهجير القسري للفلسطينيين. وكان لافتا أن تؤكد مدريد دعمها الصريح للموقف المصري ليس فقط بالتصريحات بل بالتحركات الدبلوماسية وهو ما يعكس وعياً أوروبياً متنامياً بأهمية القاهرة كلاعب رئيسي في تحقيق الاستقرار الإقليمي.
ما وراء الموقف الإسباني
الموقف الإسباني من القضية الفلسطينية ليس وليد اللحظة، بل هو امتداد لسياسة تاريخية تميزت بدرجة من الاستقلالية عن الضغوط الدولية. فإسبانيا لم تعترف بإسرائيل إلا في عام 1986، أي بعد نحو أربعة عقود من تأسيسها، وكانت أول عاصمة أوروبية تستقبل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات رسمياً. كما لعبت دورا محوريا في إطلاق مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، والذي شكل آنذاك بارقة أمل لحل النزاع العربي-الإسرائيلي. واليوم تأتي زيارة الرئيس السيسي لتعزيز هذا الإرث السياسي، عبر الدفع باتجاه إعادة إحياء عملية السلام وفق رؤية شاملة تضمن حقوق الفلسطينيين، وتتصدى لمحاولات تصفية القضية تحت غطاء حلول وهمية.
أجندة أمنية لا يمكن تجاهلها
لا يمكن النظر إلى الشراكة المصرية-الإسبانية بمعزل عن التحديات الأمنية التي تواجه المنطقة. فالهجمات المتزايدة على السفن التجارية في البحر الأحمر والاضطرابات في منطقة الساحل الإفريقي ، تفرض على القاهرة ومدريد تنسيقا أعمق لمواجهة التهديدات العابرة للحدود. وقد كان من بين الملفات المطروحة خلال الزيارة تعزيز التعاون الأمني لمواجهة الإرهاب ، والهجرة غير الشرعية، وتهريب السلاح ، وهي قضايا لا تؤثر فقط على أمن البحر المتوسط، بل تمتد تداعياتها إلى الداخل الأوروبي.
ما بعد مدريد.. إلى أين؟
الرهان الحقيقي على هذه الشراكة لا يكمن فقط في الاتفاقيات الموقعة بل في كيفية تفعيلها على أرض الواقع. فالتعاون في مجال الطاقة المتجددة، على سبيل المثال يمكن أن يجعل من مصر مركزا إقليميا لتصدير الكهرباء إلى أوروبا ، بينما يمثل تعزيز الاستثمارات الإسبانية في البنية التحتية المصرية فرصة لنقل التكنولوجيا وخلق فرص عمل جديدة.
ومع ترقب انعقاد القمة المصرية-الإسبانية المقبلة، يبقى التحدي الأهم هو البناء على ما تحقق، وعدم ترك هذه الشراكة الاستراتيجية رهينة للمتغيرات السياسية. فالتاريخ علمنا أن العلاقات التي تصمد أمام اختبار الزمن ليست تلك التي تُبنى على المصالح المؤقتة بل التي تستند إلى رؤية مشتركة للمستقبل، وهذا تحديدا ما يجعل من التقارب بين القاهرة ومدريد نموذجا يستحق المتابعة.