وقفت شامخة منذ آلاف السنين، صمدت تحت أشعة الشمس، وسيل المطر، تصدت للرياح وتقلبات المناخ، أبهرت العالم أجمع، فجذبت الأنظار، فكانت مادة ثرية للدارسين، ومزارا سياحيا للسائحين، ومطمعا للطامعين، فكانت ومازالت شاهدا على العصر، تقول بكل فخر:” هنا فجر التاريخ”.
“أنا الحضارة المصرية القديمة، أنا المعبد والهرم، أنا المسلة والتماثيل، أنا نقوش ورسوم، أنا تراث أدبي، وفكري، وأخلاقي، أقامتني أياد بشرية ليسوا بجن، ولا سحرة ومشعوزين، أناس آدميين خُلِقُوا كخلق جميع البشر، وما اختلفوا عنهم إلا بالإيمان والضمير”.
إن المصري القديم لم يكن خارقا لقواعد الطبيعة، أو تختلف فطرته عن الفطرة التي خلق الله الناس عليها، لم يكن ذو قوة عقلية وبدنية خارقة تختلف عن غيره من البشر، ولكنه بالفعل كان مختلفا، فقد كان اختلافه نابعا من إيمانه بقيمة العلم والعمل، وضميره اليقظ الذي يأبى إتمام إنجازه إلا على أكمل وجه، فكانت تلك هي الحضارة المصرية القديمة.
إن الضمير هو القوة الخارقة التي إذا امتلكها الإنسان حقق المعجزات، لأن ضميره الحي يأبى أن يفعل الأخطاء المتعمدة أو يرتكب الذنوب، والإيمان يدعم الضمير، فعندما يجتمعان فلا يُقْهَران، ويبقى آثارهما على المدى البعيد، فكانت الحضارة المصرية القديمة من أفضل الأمثلة على ذلك.
فإذا نظرت إلى إيمان المصري القديم بوجود العالم الآخر ووجوب الحفاظ على أجساد الملوك وممتلكاتهم لرأيت كيف نفذوا المقابر وشيدوها، وكيف نقشوا الصخر، وكيف بقيت الرسوم محتفظة بألوانها لآلاف السنين، بالإضافة إلى التحنيط الذي حافظ على أجساد الملوك إلى وقتنا الحالي، فقد أتقنوا كل شيء فعلوه، وذلك بفضل الضمير.
أجل ذلك الضمير الذى أبى أن يكون هرم الملك سنفرو به عيب هندسي فينهار بعد فترة وجيزة، فشيد آخر بالمقاييس المعدلة، فقد تم البدء في بناء الهرم لزاوية ميل ٤٥ درجة، ليكتشف بعد ذلك أن الزاوية الصحيحة لابد أن تكون ٣٠ درجة، فيتم تغييرها، ولكن كيف يبقى الهرم بذلك الخطأ؟! فيتم بناء هرم آخر دون أخطاء، وبقي الهرمان حتى يومنا هذا شاهدين على يقظة ضمير المصري القديم.
وإذا نظرت إلى قناع الملك توت عنخ آمون لوجدت مثال آخر ليقظة الضمير، حيث أن القناع صنع بدقة فائقة فأصبح تحفة فنية أبهرت العالم، ومازالت تبهر كل من يمعن النظر إليها.
أما معبد أبو سمبل فهو شاهد على البراعة والدقة والعلم، فقد استطاع المصري القديم أن يشيد ذلك البناء بدقة فائقة بحيث تتعامد الشمس داخل قدس الأقداس بالمعبد على وجه تمثال صاحبه في يومين من كل عام وهما يوم ميلاده، ويوم تتويجه، وفي رأيي أن هذا المعبد لا يقتصر على براعة المصري القديم وحسب، بل شاء له القدر أن يظهر براعة المصري في العصر الحديث أيضا، وذلك حين تم إنقاذه من الغرق بعد بناء السد العالي، فقد كانت فكرة تقطيعه ونقله تعود للمَثّال المصري أحمد عثمان، ليتم تنفيذ الفكرة بكل دقة فيحافظ على الظاهرة الفريدة وهي تعامد الشمس، ليكون ذلك دليلا جديدا على الإيمان بقيمة حضارتنا العريقة، والضمير اليقظ في العمل.
والآن هناك بعض الأسئلة تطرح نفسها ألا وهي: هل كان الإيمان والضمير هما المحركان الأوحدان لإقامة الحضارة المصرية القديمة؟! أم أن هناك إمكانيات ساعدت المصري القديم على ذلك، وماذا إذا جاءت صحوة الضمير الآن؟! فهل من الممكن إقامة حضارة حديثة تبقى بقاء الدهر؟! وماذا عن الإمكانيات الحديثة؟! وهل التقدم التكنولوجي يساعد في إبقاء ما ينجزه الإنسان؟! أم هو بقاء مؤقت لابد أن يأتي يوما ويزول؟!
نبذة عن الكاتبة
ريم السباعي
أحد الكتاب الشباب لمنصة كلمتنا
حاصلة على ليسانس آداب في التاريخ من جامعة عين شمس عام 2005
صدر لها مجموعة قصصية بعنوان: رحالة في جزر العجائب
صدر لها رواية بعنوان: ويعود ليلقاها
للتواصل: