كاتب ومقال

إبداعات كلمتنا| “كل شهر ناقص أسبوع”

رن جرس تنبيه الهاتف بصوت مزعج مرتفع وبرغم ذلك لم تنزعج نوال المحدقة منذ أكثر من نصف ساعة في شاشة الهاتف بسكون تام كأنها قطعة أثاث قديمة مهملة، إعتادت ضبط منبه الهاتف مرة كل شهر قبل عودة رياض الشهرية بساعة كاملة، لا يتأخر أبدًا عن موعد وصوله في كل مرة وكل شهر..

ساعة واحدة قبل موعد وصوله كافية لأن تستعد وتُصبح جاهزة لإستقباله، تفحص وجهها أمام مرآتها بدقة لتتأكد من عدم وجود أي أثر لقلم الكحل أو أحمر الشفاه، بشرة نقية باهتة وأعين مرهقة برموش متأكلة وذابلة وبعض الخطوط المتعرجة المتلاصقة حول أعينها وفمها وجبينها، تخطت الأربعين بخمس سنوات كاملة ولكنها مازالت تشعر بأنها مجرد فتاة صغيرة تنتظر ظهور فارس أحلامها في حياتها، فارسها بخيالها يحمل ملامح شاب جميل الطلة بوجه مستدير وذقن سوداء مهندمة تزين وجنتيه..

مرت الدقائق والساعة إقتربت من نهايتها وتنهدت من أعماقها وتوجهت نحو الحمام تتأكد من أن كل شئ جاهز وعلى ما يرام، أول شئ يفعله رفعت فور وصوله وبعد ملأ البيت بنظرات الشك والتفحص هو أن يدخل الحمام ويستحم كأنه لم يستحم أبدًا من قبل، حياته في الصحراء بسبب عمله جعلته يتعامل مع الماء بحرص وعشق وإفتنان يفوق أي شئ سواه..

وقفت بلا مبالاة خلف باب الشقة بلا حراك لا تفعل شئ سوى التحديق في أكرة الباب حتى فتحها رفعت ببطء يفوق في حرصه أي لص محترف، رفعت رغم ذكاءه المعروف عنه، إلا أنه يٌظهر أحيانًا غباء لا نظير له في طريقة تعامله مع نوال، موعد عودته ثابت منذ ثلاث سنوات ومع ذلك يظن بداخل عقله المشكك لو أنها تخدعه سيضبطها في لحظة وصوله!..

يرضيه ويشفي صدره أن يصعد سلالم العمارة ويتجنب المصعد حتى لا يُصدر أي صوت ويفتح الباب بحرص اللصوص المَهرة ثم يكتشف سوء ظنه وأن زوجته عفيفة مصونة لم تجلب عشيقها لبيته في غيابه، تصرف ثابت لا طائل من وراءه غير إحساسه بالإطمئنان، كثير من يفعل ذلك ويزيف كل شئ بنفسه كي يصل لنتيجة يتمناها، صُنع المرجو يصبح مثل الدواء سريع المفعول عند من يعاني من ألم داخل روحه..

وجهه النحيف ومقدمة رأسه البارزة وعظمتي فكه الساقطتين لأسفل نحو الخلف جعلوه لا يتوقع شئ من نوال سوى خيانته، الشقة الفارهة.. السيارة الجديدة.. الحلى والذهب والملابس الغالية، كل ذلك لن يمنعها من خيانته والبحث عن عشيق له ملامح جميلة وجسد معتدل بلا إنحناءه بارزة في منتصف ظهره، يؤمن بيقين أن كل إمراءة هى في الأصل خائنة وأن الشريفات هن فقط من فشلن في إيجاد عشاق..

إنتهى من حمامه بعد نصف ساعة وخرج كما يحب أن يفعل بقطعة ملابس واحدة سفلية وجلس في صالة الشقة يذكر جدرانها برائحة تبغه وهو يحدق في وجه نوال وفي صمتها، وملامحها الباهتة الذابلة تطمئنه أنها بلا شك لم تنجح في إقناع أحدهم في إرتكاب خطيئة الخيانة وجعل بيته مسرحًا لجريمتهم المنكرة، بعد دقائق من الفحص الدقيق وتبادل النظرات العشوائية الصامتة، إبتسم بسماجة وهو ينهال عليها بالأسئلة كأنه محقق في إحدى نيابات المناطق الفقيرة العشوائية، أسئلة عشوائية متلاحقة غير مرتبة بهدف إرباكها عن كل مدة غيابه عن البيت طيلة شهر كامل إلا أسبوع..

أسبوع فقط في الشهر يقضيه معها في البيت وهو يذكرها في كل لحظة أنه ليس نادمًا على قبول إستمراره في زواجهم رغم عدم قدرتها على الإنجاب وجلب الولد والبنت وصنع صخب الحياة العائلية المحبب لقلوب الأزواج، الرجل فعل ما بوسعه وكثيرًا ما قام الليل بطوله في أداء واجبه الذكوري دون حصاد، الأرض بور بلا شك ولا تصلح بها أي زرعة دون الحاجة لسؤال الأطباء، هو الزارع وهو أيضا حاصد الفراغ في نهاية كل موسم، لن يعرف الطبيب الحالة ومصيبتها أكثر منه..

طوال الأسبوع يحدثها عن مدى رضاه بطيبته وكرمه معها وأن الله لابد وأنه يدخر له جزاء عظيم على طيب صنعه، نوال لا تنفي مطلقًا حرف مما ينطق، تتلذذ بالإبتسام له والموافقة على كل ما يقول وإرضاءه بدعائها المستمر له بأن يُجزى بما يستحق وأكثر، إعتادت ذلك منذ زواجهم، كل عودة له تظل حوله وبجواره وتجهز له حمامه ثلاث مرات كل يوم وتستقبله عند خروجه استقبال الأبطال العائدون من معارك تحرير الأوطان وتحديد مصائر الشعوب..

في نهاية الأجازة تقف خلفه مباشرًة وهو يرتدي ملابسه وتسمع بإنصات تام تعليماته الخاصة بطوال فترة غيابه، ممنوع الخروج دون علمه المسبق بوجهتها، ممنوع فتح الباب لأي غريب، محذور تزيين وجهها بأي من مساحيق التجميل طوال غيابه عنها وعن البيت، كل الممنوعات تُعاد على مسامعها برتابة تشبه لوحات تعليمات الأمن الصناعي بجوار المصاعد ومع ذلك تظل تُسمعه همهماتها بجدية كأنها تسمعها لأول مرة، قبلة واحدة فوق جبينها قبل المغادرة وغلق باب الشقة خلفه وبداية شهر جديد ناقص أسبوع حتى عودته من جديد، تهرول نحو غرفتها ولا تترك جزء من وجهها دون أن تلونه بلون فاقع شديد الظهور..

بعد تمام زينتها تتصل بعمرو تخبره أنها مشتاقة إلى رؤيته بأسرع وقت، بعد ساعة على الأكثر دون تأخير، اليوم حافل وبعد عمرو لابد أن تفعل هوايتها المفضلة وتمشي في الشوارع بزينتها الكاملة دون وجهة محددة، فقط أصبحت تنبه عليه أن يحتاط بشكل أكبر حتى لا تعاني من جديد من ألم الإجهاض ومخاطره ونظرات الطبيب المؤلمة لها وهو لا يصدق أنها فقط لا تريد طفل بعد أن تخطت الأربعين بخمس سنوات.

بقلم
أحمد عبد العزيز صالح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى