دار في خاطري| ذكريات تحت المطر
عاد الشتاء إلى البلدة الصغيرة كما عادت هي إليها، كم أحبت بلدتها الصغيرة كما يحبها الشتاء، فدائما ما يكون سخي معها، لقد عاد الشتاء بعد غيبة عام، بينما هي عادت بعد غيبة خمسة عشر عاما، عادت لتجد الشتاء في استقبالها في أحب بقعة من بقاع الأرض إلى قلبها.
كانت ترتدي معطفها الصوفي الأخضر، وقبعتها السوداء، وفي يمينها مظلتها المزركشة التي تحتمي تحتها من المطر الغزير، الذي طالما بقيت تحته دون حماية تلهو وتلعب مع رفيقاتها، حتى تتبلل ثيابها، فتعود إلى البيت وتنال نصيبها من التوبيخ، فلقد تذكرت ذلك وارتسمت على شفتيها ابتسامة خفيفة توحي بالرضا عن كل ما فات.
مضت تسير في طرقات بلدتها، تلك الطرقات التي كانت في مخيلتها قبل بضع دقائق طرقات واسعة طالما ركضت فيها ذهابا وإيابا وهي تلهو وتلعب، فلقد أصبحت اليوم ضيقة عما كانت، أتراها حقا قد أصبحت ضيقة؟! أم أن جسدها الصغير هو الذي كان يهيء لها أنها واسعة؟!
ربما كان صغرها هو الذي أوحى لها في الماضي باتساع الطرقات، ولكن السبب الحقيقي في كونها تراها اليوم ضيقة يكمن في تلك التغيرات التي طرأت على البلدة، فلقد تبدل كل شيء، فتلك البيوت الصغيرة المكونة من طابق واحد، قد تبدلت ببيوت كبيرة مكونة من أربعة طوابق أو يزيد، ولقد أزيل من أمامها الأشجار، وتلك الغابة الجميلة التي كانت تلهو بها هي ورفيقاتها بجسرها الخشبي الممتد فوق الجدول، الذي طالما خشيت السير عليه لتصل إلى الجانب الآخر من الجدول حيث الأزهار المنوعة ذات الألوان الزاهية، لم يعد لأي من ذلك أثرا، ومزرعة ذلك العجوز واسطبل خيوله لم يعد لهما وجود، فقد اعتادت التردد على تلك المزرعة التي كان العجوز يربي بها الدجاج والبط والأوز لتبتاع البيض، فقد تذكرت ذلك وشعرت برغبتها في تناول ذلك البيض ذو المذاق المميز الذي لم تتذوق مثله طول حياتها، وتذكرت أصوات الخيول التي كانت تذهب من أجلها في المساء هي وصديقاتها، ويتخيلن أنهن سافرنا عبر الزمن إلى العصور القديمة، ويبدأن في اللعب ويبتكرن حكايات عن السفر عبر الزمن.
لقد تغير كل شيء، واحتلت هذه المباني متعددة الطوابق جميع الأماكن الجميلة، الغابة وجدولها وأزهارها، والمزرعة والاسطبل، حتى ذلك المخبز القديم قد تبدل بآخر حديث، ولكن الذي لم يتغير هو لعب الأطفال ولهوهم بين الطرقات.
وبينما هي تسير وتتذكر الأماكن القديمة رأت مجموعة من الفتيات الصغيرات يلهون تحت المطر، وبأيديهن دلاء يملؤنها بماء المطر، فتذكرت رفيقاتها، فلطالما لعبن بتلك الطريقة، فوقفت تتأمل وجوههن وتقول لنفسها ربما رأت إحدى رفيقاتها فتركض نحوها وتعانقها، وربما تلعب معها، ولكن سرعان ما عدلت عن ذلك وهي تضحك بصوت عال وتتساءل كيف خطرت ببالها تلك الفكرة؟! أيعقل أن تكبر وتبقى رفيقاتها صغيرات يلهون تحت المطر؟! ولكن سرعان ما تلاشت الضحكات اغرورقت عيناها بالدموع وهي تقول أجل! لقد جعلتني الغربة أكبر من رفيقاتي.
ثم ذهبت حيث كان بيتها القديم، فقد أقيم مكانه بيتا مكونا من أربعة طوابق، فنظرت إلى شرفة طابقه الأول، فرأت فتاة صغيرة تنظر من النافذة وعلى وجهها ابتسامة رقيقة، وتمد يدها الصغيرة خارج النافذة لتمسك بقطرات المطر، فراحت تتأملها وللحظة أحست بأن هذه الطفلة هي نفسها، وبأن السنين لم تمر، وأنها الآن تقف في نافذة غرفتها في بيتها القديم، فرأت ملامح الفتاة تشبه ملامحها بدرجة كبيرة، بل أنها لا تختلف عنها في شيء، فهمست وكأنها تكلمها، لا تتركي بلدك أبدا مهما حدث ولأي سبب من الأسباب، ثم أبعدت المظلة لتدع المطر يبلل ثيابها علها تجد شيئا من أيام الطفولة.
بقلم:
ريم السباعي