إبداعات كلمتنا| “رجل بوجه شاحب”
القاعة مكدسة بالنساء والرجال، صخب وضجيج وتلاصق ورائحة العرق المنفرة تزكم الأناف، لا شئ أسوأ من قاعة مكتظة بالغاضبين دون وجود مكيف للهواء، أغلب الحاضرات من النساء بدون مساحيق تجميل أو شبح اعلانات نسائية لحسن البضاعة، قليلات منهن يحتفظن بأناقتهم وألوان مساحيق التجميل فوق وجههم، بعضهن ضمن نجاح قضيته وينتظر بد اجراءات استلام النفقة وما شابه..
محكمة الأسرة ذات طابع خاص، لا تشبه باق القاعات القضائية، لا ترى فيها مجرمون عتاة أو سياسيون تطاردهم عدسات الصحافة، تشعر بداخلها أنك وسط سوق شعبي مزدحم يعج بالبضائع الرديئة والمقلدة، لو استطاع أحدهم تحويل الإنفعالات الإنسانية لطاقة، لأصبحت قاعة محكمة الأسرة تفوق السد العالي بمئات المرات..
الفاجومي كما يسميه أصدقاءه أو الأستاذ شادي المحام كما تعرفه المطلقات، بطل المحكمة بلا منازع، أكثر المحامون شهرة ومكتبه ممتلئ بقضايا الخلع والنفقة والطلاق، رحلة تقليدية تبدأ من أحد الأسواق أو العيادات وتنتهي بترشيح إحداهن له لتولي قضية تلك المكلومة الغاضبة التي جلست معها للمرة الأولى، لا تستهويه غير تلك القضايا..
يعشق صيد النساء، وما أسهل الصيد إذا كان محمل بالغضب والرغبة في الإنتقام، لولا ذكاءه الحاد لإنفضح أمره وساءت سمعته وخوى مكتبه من القضايا ورجع مرة أخرى لقضايا التعاطي وسرقة التيار الكهربي، أنهى بعض الأمور وترك الباقي لمساعده وهرول خارج القاعة يبحث عن رائحة غير رائحة عرق الغاضبات..
كافيتريا صغيرة في أحد الأركان، فنجان قهوة مظبوط حل مثالي لعلاج صداع رأسه من أصوات موكلاته وهن يصحن بغضب وإستماتة بوجهه يشرحوا له كيف كانوا ضحايا وحوش منعدمة المشاعر والضمير، مع أول رشفة من بن المحكمة الردئ، لمح أحدهم يجلس منزويًا شبه ملاصق للحائط كأنه يقرأ شئ هام منقوش فوق الجدار المتسخ..
رجل بوجه شاحب وشعر إحتله الشيب المبكر، الرجل بجلسته الغريبة لافت للنظر بشدة، والجزء الظاهر من وجهه يضغط على ذاكرة الفاجومي بشدة، يشعر أنه يعرف هذا الشخص، الفضول تمكن منه ودفعه للقيام والإقتراب، عادته الدائمة السير خلف فضوله كما يفعل مع موكلاته، لا يهتم بحيثيات القضية بقدر ما يدفعه فضوله للسؤال عن الجانب الإنساني وخفايا ما قبل الطلاق..
بمجرد رؤية ملامح الرجل ذو الوجه الشاحب،
صاح بفرحة ودهشة،
– آدم المختار!.. مش معقول
لحظة من الإرتباك إنتابت آدم قبل أن يخرج من شروده ويجاهد لرسم شبح إبتسامة على وجهه، عبارات غزيرة متلاحقة من فم شادي وآدم لا يجد فرصة للكلام غير الإيماء برأسه محاولًا اثبات سعادته بلقاء الصدفة بينهم..
فنجانين مخصوصين من القهوة وجمعتهم طاولة واحدة، بعد عودة الفضول لشادي، سأل آدم عن سبب وجوده، عاد آدم لعبوثه وشاح عنه ببصره وهو يخبره بإنكسار أنه جاء لتسديد نفقة المتعة والمؤخر وبعض الأمور الأخرى، ادعى شادي الإهتمام والرغبة في المساعدة وجذب ملف القضية من أمام صديقه القديم..
توقف لحظة مصدومًا عند قراءة إسم الزوجة، إنها إحدى موكلاته، تركها داخل القاعة قبل قليل، شعر بالإحراج البالغ، كيف لم ينتبه لإسم الزوج؟!، ضريبة العمل المكثف، يترك أغلب الأمور لمستعديه من المحامين تحت التمرين، يدعي قراءة الملف وبين سطر وأخر يخطف نظرة لوجه آدم، متى وكيف أصابه كل هذا الشحوب والعبوث؟!..
من يراه لا يصدق أنه هو آدم الذى كان دائم الإبتسام والمرح وطول الوقت منمق يهتم بمظهره وهيئته، ولكن كيف تكون تلك القاسية هى زوجة آدم؟!، منذ أن عبرت مكتبه بقدمها ولفتت انتباهه، ملابس ملفتة وزينة وجه صاخبة وشديدة الوضوح، أراد صيدها منذ اللحظة الأولى وهو يشعر بفراسته النسائية أنها صيد سهل ولا تحتاج سوى كلمة أو كلمتان وتصبح من ضمن أرشيف مغامراته..
وجد لها حساب على إحدى المنصات وشاهد بنفسه كيف أنها ليل نهار لا تتوقف عن الزهو بصورها ومحاولة جذب الرجال إليها!، عقله لا يجد تفسيرات منطقية وهو أمام رجل ذو وجه شاحب يتحدث بصوت واهن وقلب مكسور، طمئن آدم وأخبره أنه بمهارته القانونية يستطيع تقليل المدفوع بشكل كبير، إبتسم آدم بوهن بالغ وأشاح بيده رافضًا ذلك بشكل قاطع..
أقسم له أن المال لا يعنيه في شئ على الإطلاق،
بل أنه مهتم وحريص على دفع كل شئ مهما كان حتى لا تعاني طليقته من بعده، إمتعض وجه شادي وهو يستمع إليه ومشاهد طليقته تمر بعقله وتغريداتها التي فهمها بسهولة أنها لإمرأة جريئة تبحث عن علاقة!، لأول مرة لا يفعل هوايته المفضلة ويسأل آدم عن الجانب الإنساني وأسباب الطلاق، الرؤية واضحة بدون سرد أو تفصيل..
قطع حديثهم صوت مساعده يطلب مقابلة موكلته، إنها هى نفسها طليقة آدم، تقف خلف مساعده بخطوة تأفف من الحر، لمحها آدم رغمًا عنه وشحب وجه شحوب مضاعف جعل وجهه يشبه وجه ميت منذ أيام، تفهم شادي الموقف وهمس بشئ لمساعده بعد ما رأى وجه آدم ونظرات الغضب والإستفهام على وجه طليقته الغاضبة..
بلا شك ظنته يتلاعب بمصالحها لصالح طليقها، هكذا هم بعض النساء.. لا يعرفوا لحسن النوايا أي طريق، تحركت بكبرياء مصطنع مبتعدة ومساعد شادي يحاول اللحاق بها، خر جسد آدم فوق مقعده الخشبي بأعين مفزوعة جاحظة وهو يتمتم،
– هى قلعت الحجاب!
تمكن الخرس من شادي وشعر رغم أنه لم يملك الوقت لإتمام عملية الصيد، أنه أمام رجل مكلوم مقهور، لم يتبقى منه من سمات الماضي أي شئ، أعاد الملف أمامه وهو يودعه ويطلب منه سرعة الاتصال به إذا احتاج لأي شئ في قضيته، غادر وتركه وترك معه رغبته في الصيد، وكيف يستطيع صيد فاتنة جريئة وهى صنعت من صديقه القديم رجل بوجه شاحب.