وقفت تنظر في مرآتها وتتأمل وجهها الذي غربت إشراقته، وخطه الزمان، وتداعب بأناملها خصلات شعرها الذي تسلل إليه الشيب، وتحدق بعينيها الذي انطفأ بريقها، وأجفانها المتهدلة التي تساقطت أهدابها كأوراق الخريف، فلم ترق لها هذه الصورة التي تركت بها السنون خمسون علامة، وكأن كل عام مضى من عمرها أراد أن يترك أثرا لا يمحى، ولكن تلك العلامات لم تكن ظاهرة من قبل، فقد آثرت الدنيا إخفاءها لتفتنها بمفاتنها الزائفة حتى تنساق إليها، وحين يسكن الوهن الضلوع تظهر جميعها أمام ناظريها، فتضحك لها الدنيا ضحكة خبث تنم عن الانتصار.
فمضت تنظر إلى وجهها الذي تأباه وتحاول إعادته بذاكرتها إلى عهده السابق حتى استطاعت أن تعبر من خلال المرآة إلى زمن يروق لها، وكأنها عبرت بوابة الزمن فعبرت ثلاثة عقود، فها هي ترى وجهها ذو العشرون ربيعا وقد عاد مشرقا نضرا، وعاد البريق بعينيها النجلاوين ذات الأهداب الكثيفة، فراحت تصفف شعرها الذهبي المنسدل على ظهرها وكتفيها كما كان يروق لها، فرأت ثيابها ذات الألوان الزاهية، وأحذيتها العالية، فسمعت صدى صوت أغانيها التي طالما رددتها هي ورفيقاتها في نزهاتهن، فابتسمت ابتسامة فتاة هاربة من أيام الطفولة لتستقبل أياما مزهرة لا تظنها قد تذبل أبدا.
وبينما هي في ظلال تلك الأيام المشرقة إذا بها تتذكر ابنتها التي آتتها رفيقة العقدين الماضيين، فذابت صورتها في المرآة لتحل محلها صورة ابنتها بثيابها وزينتها، وصمت صدى الماضي ليصدح صوت الحاضر، فيظهر معه التشابه بينهما في الأقوال والأفعال، ثم تختفي صورة ابنتها لتعود صورتها للظهور من جديد، فتلوم نفسها على انتقادها الدائم لابنتها على أفعال كانت تفعلها وهي في نفس عمرها ولم يكن ينتقدها أحد، فعلمت أن الأيام تنتقل من جيل إلى جيل، وليس هناك جيل أفضل من جيل، فلكل زمان رونقه، ولكل وقت مميزات وعيوب.
وعندئذ عادت من رحلتها لتعود المرآة كسابق عهدها، فها هي ترى وجهها الخمسيني وتبتسم ابتسامة صافية، تنم عن الرضا والقناعة، فقد عادت من رحلتها التي لم تستغرق سوى دقائق معدودة امرأة جديدة، مقبلة على الحياة، تنظر إليها من منظور جديد، فعدلت من تصفيف شعرها الرمادي، واستقبلت ملامح وجهها بصدر رحب، فهي لن تنبذ هذا الوجه ثانية.
نبذة عن الكاتبة
ريم السباعي
أحد الكتاب الشباب لمنصة كلمتنا
حاصلة على ليسانس آداب في التاريخ من جامعة عين شمس عام 2005
صدر لها مجموعة قصصية بعنوان: رحالة في جزر العجائب
صدر لها رواية بعنوان: ويعود ليلقاها
للتواصل: