رؤى التحول الاقتصادي والطاقة| الشرق المشتعل.. ومصر في قلب الموجة الاقتصادية القادمة

لا يمكن لأي مراقب حصيف أن ينكر أن الصراع الإيراني الإسرائيلي بقدر ما يبدو عسكريا وأمنيا في مظهره، إلا أن آثاره الحقيقية والأكثر عمقا تكمن في الجانب الاقتصادي خصوصا لدول المحور في الإقليم. مصر باعتبارها دولة ذات موقع استراتيجي واقتصاد منفتح على الأسواق العالمية ليست على الهامش من هذه التداعيات ، بل تقف في القلب تماما ، حيث تتقاطع خطوط التجارة، وتتأثر الأسواق، وتتبدل الحسابات المالية في ظل مشهد دولي مرتبك ومتقلب.
الاضطراب في مضيق هرمز وهو الشريان الحيوي لتدفقات الطاقة من الخليج إلى العالم كفيل بأن يعيد تشكيل معادلة العرض والطلب على النفط والغاز في وقت قياسي. وفي هذا السياق فإن أي تصعيد في الصراع من شأنه أن يدفع أسعار الطاقة إلى مستويات يصعب التكهن بها. وبالنسبة لمصر فإن ارتفاع أسعار المواد البترولية لا يُعد مسألة خارجية بحتة بل هو ضغط مباشر على الموازنة العامة التي تتحمل بالفعل أعباء ثقيلة في ظل سياسة الدعم الانتقالي وإعادة هيكلة المصروفات. التأثر هنا لن يكون نظريا أو مؤجلا بل ملموسا على الأرض سواء في تكاليف النقل أو مدخلات الإنتاج الصناعي أو في أعباء الفاتورة الاستيرادية للدولة.
لكن ما يبدو تهديدا من زاوية يمكن أن يتحول إلى فرصة من زاوية أخرى وهذا هو جوهر الرؤية الاستراتيجية في التعامل مع الأزمات. مصر التي تملك بنية تحتية متقدمة لتسييل وتصدير الغاز يمكن أن تقدم نفسها للعالم كمصدر بديل وموثوق لإمدادات الطاقة ، لا سيما إلى أوروبا التي ما زالت تبحث عن بدائل مستقرة بعيدا عن الأزمات الجيوسياسية. المحطات المصرية وعلى رأسها دمياط وإدكو تمتلك القدرة على ملء هذا الفراغ بشرط أن تتحرك الدبلوماسية والاقتصاد معًا في اتجاه موحد ومتناغم.
وفي سياق آخر فإن خطوط الملاحة الدولية وعلى رأسها قناة السويس تدخل بدورها في دائرة التأثير والتأثر. أي اضطراب في الخليج أو البحر الأحمر يعيد رسم خرائط التجارة البحرية ويرفع منسوب القلق لدى الشركات العملاقة ويزيد من كلفة التأمين والشحن. هذا يمكن أن يُترجم إلى ضغط على خطوط الإمداد لكنه أيضا يحمل في طياته فرصة لتعظيم إيرادات القناة ، إذا ما تم تسويقها دوليا كممر آمن وموثوق في أوقات التوتر. ومع ذلك فإن هذا يتطلب يقظة أمنية ومهارة لوجستية عالية واستعدادًا دائمًا لأي تطورات مفاجئة في بيئة مضطربة أصلًا.
أما على مستوى الاستثمار فالمعادلة أكثر تعقيدا. من المؤكد أن المستثمرين يراقبون المشهد بعين الترقب وأي توتر طويل الأمد سيدفعهم نحو تجميد خططهم أو تأجيل دخولهم إلى الأسواق الناشئة، ومنها مصر. لكن في المقابل فإن حالة الارتباك في الإقليم قد تجعل من القاهرة ملاذًا آمنًا نسبيا لرؤوس الأموال الباحثة عن الاستقرار ، شريطة أن تقدم الدولة ضمانات واضحة، وحوافز حقيقية، وخطابا اقتصاديا موحدا يبعث برسائل طمأنة قوية وواضحة.
هذا يضعنا أمام لحظة فارقة تتطلب إدارة أزمة ذات طابع استباقي لا مجرد رد فعل على الأحداث. الرهان الحقيقي لا يكون في النجاة من العاصفة فحسب بل في استثمار مفاعيلها لبناء تموضع اقتصادي جديد. مصر لديها من الأدوات والمؤسسات ما يمكنها من ذلك بشرط أن تتحرك وفق خطة متكاملة تتقاطع فيها السياسات المالية مع الدبلوماسية الاقتصادية والإعلام مع الوعي المجتمعي والتخطيط بعيد المدى مع سرعة الاستجابة للحظة الطارئة.
إن المنطقة تعيش على صفيح ساخن وتداعيات الحرب ـ حتى وإن لم تتسع ـ ستتجاوز حدود الجغرافيا. ما تحتاجه مصر اليوم ليس فقط قدرة على التحليل والتشخيص بل أيضًا جرأة في اتخاذ القرارات ، وشجاعة في طرح البدائل ومرونة في تعديل المسارات إذا تطلب الأمر. وكل هذا لا يمكن أن يتحقق إلا بإرادة وطنية موحدة ورؤية تضع المصلحة العليا فوق كل حسابات ضيقة.
لقد علمتنا التجارب أن الدول لا تُختبر في أوقات الرخاء بل في لحظات العواصف. ومصر التي عبرت أزمات أشد وطأة قادرة على عبور هذا التحدي أيضا شريطة أن تؤمن بأن التهديدات الكبرى غالبا ما تكون بوابة الفرص الكبرى.