كلمة ورد غطاها| الرصيد اليومي لطاقة التواصل

على لسان أرسطو تأتي مقولة شهيرة: “الإنسان حيوان اجتماعي”، وهي حقيقة بالتأكيد، فالإنسان خلق للتواصل، ولذلك فإن أقسى وأقصى أنواع العقوبات هي الحبس الانفرادي، حيث لا يجد الإنسان من يتحدث إليه، وهو ما يؤثر على كفاءة كل شيء، بداية من الحالة النفسية والعصبية وصولًا إلى الحبال الصوتية والقدرة على الكلام. لذلك أيضًا، فإن المثل الشعبي يقول: “جنة من غير ناس ما تنداس”، وهو ما يشعر به من يسكن وحيدًا في أي من المناطق النائية، مثلاً.
وبغض النظر عن تلك المقولات أو المفاهيم الصحيحة، لعصر التكنولوجيا رأي آخر، بداية من الهواتف الأرضية ثم المحمولة ثم الذكية، ثم انتشار شبكة الإنترنت وتطبيقات ومنصات التواصل الاجتماعي المتعددة، التي جعلت التواصل لحظيًا وآنيًا بين البشر بغض النظر عن الحواجز الجغرافية أو اللغوية أو أي حواجز أخرى. فحتى النائم تستطيع أن تتواصل معه فتوقظه بإشعار موسيقي ليرى رسالتك ويتفاعل معها، والمشغول لأي سبب – إلا غيبوبة الموت – تستطيع أن ترسل له رسالة أو أكثر تحتوي على ما تريد إبلاغه به، ويستطيع أن يطلع عليها لاحقًا.
هذا التواصل الكبير والمحمول ليس كله خير، فمن يستطيع أن يتلقى عشرات أو مئات المكالمات الهاتفية يوميًا ويطالع عشرات أو مئات الرسائل النصية أو المصورة يوميًا أيضًا، ثم يتابع الأخبار المتدفقة على شاشات الهواتف الذكية في كل ثانية بكميات مهولة وبكل لغات العالم وفي كافة الموضوعات، القليل الهام والكثير التافه؟ والسؤال عن من يستطيع أن يحتمل هذا الهجوم اليومي هو سؤال استفهامي حسابي واستنكاري أيضًا، ببساطة لأنه ليس لكل منا نفس الطاقة وقدرة الاحتمال والشغف والاهتمام، ولكن حتمًا لكل منا متوسط وأقصى ونقطة انهيار أو غليان. إن وصل إليها الإنسان فإنه سينهار من الداخل والخارج، فتبدأ وظائفه الحيوية في التأثر، ويظهر ذلك في اضطرابات النوم والهضم والتركيز وباقي الوظائف الحيوية والمناعة ومقاومة الأمراض أو الإصابة بها. وعلى المستوى الخارجي، فإن الانفعالات وموجات الغضب أو الإحباط أو الاكتئاب أو اليأس تزداد كثيرًا.
إذا ما الحل؟ لا تتوقع مني، عزيزي القارئ، أن أعطيك روشتة، فالأمر هنا ليس مرتبطًا بالعالم الافتراضي فحسب، بل هو مرتبط بالتواصل بصوره المختلفة. ولكن ببساطة، يستطيع كل منا أن يتعرف على حدي الأدنى والأقصى في كل تلك الأساليب من التواصل، ويلتزم بالحد الأدنى عندما يشعر بالتعب، ويصل إلى متوسط مناسب يحاول ألا يتخطاه لكيلا يصاب بالإرهاق. ولكن دائمًا وحتمًا يجب أن يتوقف عن كل أنواع التواصل عندما يقترب من الحد الأقصى للتواصل، والذي سيترك صاحبه بلا طاقة لإكمال اليوم وقد ينفعل لأبسط الأمور، كأن يسأله أحدهم عن سبب زيادة درجات الحرارة في نهاية فصل الشتاء، مثلما حدث منذ عدة أيام.