كاتب ومقال

ولا في الخيال| عن نزار قباني

في دمشق القديمة، حيث يفوح عبق الياسمين ويتداخل همس النوافير مع حكايات الأزقة الضيقة، ولد نزار. كانت طفولته مزيجًا من اللهو البريء بين أشجار الليمون في فناء البيت الكبير، والاستماع بشغف إلى قصص الحب القديمة التي ترويها جدته. امتصّ روح المدينة الشامية، جمالها الساحر وتناقضاتها الخفية، ليصبح هذا الفضاء جزءًا لا يتجزأ من وجدانه وشعره.
في شبابه، وبينما كان يدرس الحقوق، بدأت الكلمات تتشكل في داخله بطريقة مختلفة. لم تكن مجرد قوانين جافة، بل كانت نبضات قلب، لغة جديدة تعبر عن الشوق والحنين والدهشة أمام جمال الأنثى. أولى قصائده كانت كهمسات خجولة، اعترافات صامتة بالحب الذي بدأ يزهر في روحه.
عندما صدر ديوانه الأول “قالت لي السمراء”، أحدث ضجة في الأوساط الأدبية. كان شعره جريئًا، مباشرًا، يتغنى بالمرأة وحسنها دون مواربة أو خجل. كسر قيود التقاليد الشعرية السائدة، وأدخل إلى القصيدة لغة الحياة اليومية، لغة الشوق واللهفة التي يعرفها كل عاشق.
لم يكن شعر نزار مجرد وصف للجمال الظاهري، بل كان استكشافًا لعالم المرأة الداخلي، لروحها وأحاسيسها. كان يرى فيها قوة وإلهامًا، وكانت قصائده بمثابة احتفاء دائم بأنوثتها. هذا الاحتفاء لم يسلم من الانتقادات، فقد اتهمه البعض بالسطحية أو الإغراق في الحسية، لكن شعره وجد طريقه إلى قلوب الملايين، خاصة الشباب الذين وجدوا فيه صوتًا يعبر عن مشاعرهم بصدق وعفوية.
في سنوات عمله الدبلوماسي، تنقل نزار بين عواصم العالم، وشاهد عن قرب تقلبات السياسة وصراعاتها. هذه التجارب تركت بصمتها على شعره، فأصبح أكثر عمقًا وتنوعًا. لم يعد الحب هو الموضوع الوحيد، بل أضاف إليه الوطن، والقضايا القومية، والمرارة من الانكسارات والهزائم.
قصائده عن فلسطين، عن بيروت الجريحة، كانت صرخة مدوية، تعبر عن الألم والغضب والإصرار على الكرامة. كلماته كانت كسهام تخترق جدار الصمت، توحد الشعور العربي في مواجهة التحديات.
لكن الحب بقي حاضرًا دائمًا في شعره، حتى في أحلك الظروف. كان يرى فيه ملاذًا، قوة تبعث على الأمل، ورمزًا للجمال والإنسانية في عالم مليء بالقسوة. قصائده الرومانسية ظلت تحتفظ بسحرها وجاذبيتها، تلامس أوتار القلوب وتذكرنا بقوة الحب وقدرته على تجاوز الحدود.
في أواخر أيامه، وبعد أن فقد زوجته الحبيبة بلقيس في تفجير مأساوي، اكتسى شعره لونًا حزينًا، عميقًا. تحولت كلماته إلى مرثيات مؤلمة، تعبر عن الفقد والوحدة والوجع الذي لا يندمل. لكن حتى في هذا الحزن العميق، بقي شعره نابضًا بالحياة، شاهدًا على قوة الحب وقدرته على البقاء حتى في وجه الموت.
رحل نزار قباني، لكن شعره بقي حيًا، يتردد في كل بيت عربي، على ألسنة العشاق والثائرين. لقد ترك لنا إرثًا شعريًا فريدًا، يمزج بين الرومانسية والوطنية، بين البساطة والعمق، بين الجرأة والحساسية. شعره هو صوت جيل كامل، هو سجل لأحلامه وآماله وانكساراته، وهو قبل كل شيء، احتفاء دائم بالحب والحياة والجمال.

بقلم:

د.زين عبد الهادي

الكاتب والأكاديمي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى