كاتب ومقال

إبداعات كلمتنا| “نساء في الثلاجة”

جلس ماهر صامتًا دون أن ينطق بحرف واحد ورباب ترمقه بنظرات حائرة مضطربة، الرجل أسقط في يده ولا يعرف كيف يبدأ حديثه معها، إدعى الإنهماك في إحتساء فنجان قهوته وهو يتحاشى نظراتها المتسائلة المطالبة بمعرفة نتيجة لقاءه مع هيثم، فنجان القهوة ينتهى ويضعه وجهًا لوجه أمام نفاذ صبرها..

بتلعثم ونظرات خجل ألقى عليها الخبر المزعج، هيثم زوجها مازال مصرًا على موقفه، يرفض إتمام الطلاق الرسمي، كل المحاولات معه باءت بالفشل على مدار ثلاث سنوات كاملة، لا طلاق مهما حدث، لن تقوى على رفع قضية خلع بسبب أولادهم، ولن تفعلها وترفع قضية طلاق، وبماذا تخبر القاضي؟!

أسباب إقناع المحكمة بالطلاق غير متوفرة، ولن يطلقها القاضي لأنها تشعر أنها مسجونة في سجن هيثم وإنفرط عمرها دون أن تحقق ذاتها، محاميه نفسه نظر لها بإمتعاض وسخرية وهى تخبره أنها تريد الطلاق لعدم شعوره بالحب تجاه هيثم أو الرغبة في العيش معه، القاضي والمحام لا يعترفون بالأدلة المعنوية، لا يقبلوا غير الأسباب الواضحة المنحوتة في صخر الحياة الزوجية..

هيثم في نظر القضاء زوج لا غبار عليه، لا أحد يمؤمن بحق رباب في الطلاق غير بعض من صديقاتها، لا مجال لصوت المشاعر داخل قاعة المحكمة، فقط الأدلة الواضحة المثبتة وشهود العيان، إنكسار روح رباب لا دليل عليه ولا حتى بكاءها، حديثها عن فقدان ذاتها وروحها وشعورها بالوحدة والترك رغم وجود هيثم، لم يرد من قبل في كتب القانون..

لم يسبق وأن صدر قانون يسمح للزوجة بالطلاق إذا بهتت مشاعرها أو فقدت الرغبة والقدرة على الإستمرار، هيثم يصر على حرمانها حريتها، كلما تحدث أحدهم معه وطالبه بتلبية رغبتها، إرتفع صوته وهو يسب ويلعن ويؤكد لهم أن السيدات المحترمات لا يطلبن الطلاق لنفاذ عاطفتهم وفقدانهم الإحساس والمشاعر، يلوح طوال الوقت بإتهامها بأنها بلا شك وقعت في غرام شخص أخر، رباب زوجة خائنة.. سبب تقبل المحكمة مناقشته والبحث عن أدلته ودوافعه..

صمتها صمت المجبر والمقهور، أولادهم في سن يجبرها على الصمت، لا يمكنها قبول فكرة أن يظن أولادها أنها منحرفة منحلة تركت مشاعرها تقودها لشخص آخر غير والدهم، سلاح هيثم قوي وحاد، إما الصمت أو أن يعلنها زوجة خائنة للجميع، ثلاث سنوات بروح منكسرة وقلب إمرأة عجوز، هيثم الكاذب هو أكثر شخص على وجه الأرض يعرف أنها ليست خائنة، لم تحب آخر..

لم تبحث عن عشيق كل جريمتها أنها إستيقظت ذات صباح لتدرك أنها فقدت نفسها، مر العمر وزار الشيب بعض خصلات شعرها الذهبي ولم تشعر لحظة واحدة أنها راضية عن حايتها وحالها، هى فقط تعيش.. تنام وتستيقظ.. تأكل وتشرب.. تعتني بهيثم والبيت والأولاد، حتى هوايتها المفضلة في الرسم لم تعد تجد وقت ولو قليل يسمح لها بممارستها، نست نفسها.. نست رباب ولم تعد تتذكرها..

هل يقبل القاضي طلبها للطلاق تحقيقًا لرغبتها في الرسم؟! القانون لا يعرف اللوحات والألوان، حتى أولادها وأقاربها لا يعترفون بجدوى رسمها ولا أهميته، ثلاث سنوات وهيثم يزهو بذكوريته ولا يتوقف عن مواعدة الآخريات، يمكنه الزواج من غيرها..
لكن القاضي غير المعترف بحب الرسم.. يعترف بحق الزوجة في الطلاق إذا تزوج زوجها عليها، هيثم أذكى من أن يضع بين يديها مفتاح قيودها، وحدها تعاني الفزع من استمرار الوضع كما هو، حتى فرشاتها وأقلامها يرفضون السير بمرونة فوق لوحتها ولم تقتنص حريتها بعد..

قيود روحها ممتدة حتى أناملها، تشعر بالبرد حتى في ليالي أغسطس الحارة، تشعر أنها قطعة لحم مجمدة في الثلاجة لحين الحاجة لإستخدامها، وضعها هيثم في الثلاجة وأحكم إغلاق الباب خلفها، إما أن تقبل العودة لمائدة طعامه يلتهم الباقي من روحها وعمرها، وإما البقاء في الثلاجة لآخر العمر.

بقلم
أحمد عبد العزيز صالح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى