ما تزال مصر منارة في الثقافة والفنون، فمن هنا كانت رسالة السلام للعالم، وعلى جدران معابدها ومقابر ملوكها كانت أروع اللوحات الفنية، التي تنطق بعظمة الفن المصري القديم، الذي طوع بيئته لنشر الثقافة، ومن أبرز معالم مصر القديمة الثقافية تأتي “مكتبة الإسكندرية القديمة”، أقدم مكتبة حكومية عامة في العالم القديم وليس لأنها أول مكتبات العالم فمكتبات المعابد الفرعونية كانت معروفة عند قدماء المصريين ولكنها كانت خاصة بالكهنة فقط، ودشنت لتضم أكبر مجموعة من الكتب في العالم القديم والتي وصل عددها آنذاك إلى 700 ألف مجلد بما في ذلك أعمال هوميروس ومكتبة أرسطو.
تتأرجح الروايات حول مؤسسها؛ فيرى بعضهم أن الإسكندر الأكبر قد شيدها، لتضم كنوز الكتب في شتى المجالات، ويرى آخرون أن بطليموس الأول شيدها لتصبح كبرى مكتبات عصرها، فيما يرى فريق ثالث أنها شيدت على يد بطليموس الثاني في أوائل القرن الثالث قبل الميلاد. ولكن ما تحفظه المصادر التاريخية أن المكتبة التاريخية قد تعرضت للعديد من الحرائق، ودمرت تماماً في عام 48 ق.م وفي عام 2002 تم إعادة بنائها تحت اسم مكتبة الإسكندرية الجديدة.
وتشير كتابات المؤرخين إلى أن سبب تدمير المكتبة ما قام به بطليموس الصغير، شقيق كليوباترا، حيث أحرق أكثر من 100 سفينة على سواحل المتوسط، بالقرب منها، لتمتد النيران إلى الكتب النادرة في المكتبة وتأتي عليها، عن بكرة أبيها، وبعضهم يتهم الإمبراطور الروماني ثيودوسيوس الأول بإحراق المكتبة، وفريق ثالث يرى أن يوليوس قيصر هو الذي أمر بإحراقها، ويزعم بعض المؤرخين أنها دمرت تماما إبان فترة حكم عمرو بن العاص لمصر بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب. في حين ينفي مؤرخون آخرون، مثل جوستاف لوبون أي صلة للمسلمين وعمرو بن العاص في حريق المكتبة، لأن الجيش الإسلامي وصل الإسكندرية عام 642 م، وقتها لم تكن المكتبة قائمة أصلا، بحسب ما جاء في مقال: ‘ هل أحرق عمرو بن العاص مكتبة الإسكندرية؟، بقلم: د. نبيل لوقا بباوي، أستاذ القانون الجنائي، قضايا وآراء، جريدة الأهرام المصرية العدد 42654, بتاريخ 18 سبتمبر 2003 م.
هناك الكثير من الدلائل على تنوع حضاري وتناغم في التراث السكندري لا يمكن تجاهله، فكما ترى معالم رومانية ويونانية فهناك تراث البطالمة والإيطاليين والقبارصة وغيرهم من الجنسيات، ما يروق للبعض معه تسميته “كوزموبوليتانية” الإسكندرية، لما تضمه من تراث حضاري، حتى في شوارعها ومعالمها، ستجد النادي اليوناني وبيت كفافيس وغيره من المعالم المرتبطة بمن عاشوا على أرضها.
إذا أردت لوحة حية لتعايش البشر وتناغمهم، ودليلا على التنوع الحضاري والثقافي في مصر، فإن الإجابة ستكون “الإسكندرية”، بلا شك، وتستمر الرحلة الحضارية والثقافية في ربوعها، حتى يأتي عام 2002، وفي عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، وبدعم من منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة «اليونسكو» تم تدشين مكتبة الإسكندرية الجديدة، لتنشر الثقافة والفن والتراث، لتمثل امتدادا لتاريخ مكتبة الإسكندرية القديمة، التي علمت العالم.
لم يقف دور المكتبة الرائدة على نشر الثقافة وحسب، ولكن مع تداعيات أزمة الكهرباء، برز دورها المجتمعي، لتعلن فتح أبوابها لطلاب الثانوية العامة لمذاكرة دروسهم، أثناء فترات الانقطاع، رسالة متميزة، تصدرت لها أيضا عدد من الكنائس المصرية، ليعلن الوعي الجمعي للمجتمع المصري أننا أقوى من أي تحد، وأن مصر قادرة على تخطي أي مشكلة بتضافر شعبها وبما حباه الله إياه من عزيمة ومثابرة.
تعد مكتبة الإسكندرية أول مكتبة رقمية في القرن الواحد والعشرين وتضم التراث المصري الثقافي والإنساني، وامتدادا لرسالتها التنويرية، اتاحت مكتبة الإسكندرية على موقعها مئات الآلاف من المراجع والدوريات والمقالات، حيث يمكنك الحصول على أجزاء محددة من بعض المراجع مجانا، في صورة رقمية، بشكل مجاني، لمن بلغ 16 عاما، بإرسال ما يطلبه من مقالات أو فصول من الكتب الإليكترونية إلى البريد:
[email protected]
جهود مشرفة يقوم بها د. أحمد مدير مكتبة الإسكندرية في استمرار رسالتها التنويرية، واليوم تستضيف واحد من أبرز معارض الكتب، والذي يستقبل رواد المكتبة ومحبي الثقافة على مدار أيام انعقاده، ليستمتعوا بوجبة ثقافية متميزة.. لتظل ألسنتنا دوما تردد:
عمار يا إسكندرية بالبحر والفنار من مطلع الزمان.. وللحديث بقية مع رفوف المكتبة.