دار في خاطري| أوراق الخريف
إنها المرة الأولى التي يأتي فيها الخريف وأنا في هذا البيت الصغير القائم بين الأشجار الكبيرة، التي بدت وكأنها غابة مترامية الأطراف، فحين انتقلت إلى هذا البيت كان عند بداية الربيع، فشعرت بجمال جنتي الخضراء، وأنست برفقة أصدقائي الطيور، الذين اعتدت وجودهم فوق تلك الأشجار، استيقظ في كل صباح على أصوات تغريدهم المبهج، وأنعم بنسيم الربيع، ورائحة الصبح المحملة بعطر الورود والرياحين.
ثم أتى الصيف، فازدادت حرارة الطقس، ولكن أشجاري كانت تحجب عني أشعة الشمس الحارقة قدر الإمكان، وتقلل من حدة حرارتها، فلم أشعر بصيف حارق كسابق عهده.
ولكن ماذا عن الخريف؟! لم أتخيل يوما كيف يبدو هذا المكان في الخريف، ربما لأن الخريف يعني لي النهاية فيشعرني بالحزن، ولأنني لا أريد التفكير في الأحزان فلم أفكر يوما في قدوم الخريف، أجل في الخريف نهاية، نهاية الصيف الذي يعني لي النشاط، ونهاية الأزهار وأوراق الأشجار التي كانت بالأمس يانعة نضرة، وفيه تهاجر الطيور لينتهي مستقرها وترحل إلى مكان آخر.
لقد أقبل الخريف، لا أعلم كيف يتم تحول الفصول، دائما لا أدرك تلك الأيام التي يمضي فيها الفصل ليحل فصلا آخر، ولكني أشعر وكأن الفصل أتى بين عشية وضحاها، وهكذا أتى الخريف بين عشية وضحاها.
فلقد استيقظت يوما ولم أسمع صوت الطيور، فخرجت لأنظر فوق الأشجار، فإذا هي فارغة، لا طيور ولا أوراق، فلقد هاجرت الطيور، وتساقطت الأوراق، وتبدد حر الصيف وهبت نسمات باردة تقول للكون احذر سوف يأتي الشتاء، فنظرت حولي فإذا بهذا النسيم يحمل أوراق الأشجار التي سقطت، يبعثرها، ثم يجمعها، فيعود ويبعثرها من جديد.
وقفت أتأمل هذا المشهد الجميل، ومن ثم مددت يدي وأمسكت بورقة شجر ورحت أتأملها، لقد كانت يابسة، تتدرج ألوانها بين الأصفر والبرتقالي والأحمر، فسألت نفسي: لماذا جفت تلك الورقة وقد كانت بالأمس خضراء يانعة؟! ومن ثم أمسكت بورقة ثانية، ورحت أتأملها، ثم ثالثة، ورابعة، وخامسة، لقد كانوا جميعهم على نفس الحال، أوراق صفراء يابسة.
مضيت أبحث في مكتبتي الصغيرة عن سر جفاف أوراق الخريف، لأجد أن السر يكمن في ضعف أشعة الشمس التي تجعل الأشجار غير قادرة على إنتاج الكلوروفيل الذي يحافظ على أوراق الأشجار خضراء يانعة، لم يكن ذلك هو السبب الذي أردت معرفته، فلم أكن ابحث عن سببا علميا، ولكني لم أجد غيره، فمضيت أفكر في سبب يرضيني كوني إنسانا محبا للطبيعة، حتى تملكني شعور غير نظرتي لفصل الخريف.
لقد شعرت أن تلك الأوراق اليابسة قد أدت دورها الذي خلقت من أجله، والآن قد تحررت من قبضة الأشجار لتعيش حياة مختلفة، وتخوض مغامرات جديدة، فهذا لا يعني النهاية لها، بل بداية جديدة ربما رأتها في وقتها هذا الأفضل بالنسبة لها، ورحت أطبق تلك الفكرة في كل شيء حولي، فلم أعد حزينا على رحيل الطيور، لأنهم عائدون لا محالة، وتلك الأشجار الخاوية، سوف تغطيها الأوراق الخضراء من جديد، وهذه الشمس التي ضعف شعاعها من خلف السحاب، سوف يقوى ويظهر بعد أن تتبدد الغيوم، فشعرت بأن فصل الخريف ليس هو النهاية، بل هو البداية بداية لكل جديد، ووعد للعودة من جديد.
وهكذا لابد أن يكون الإنسان، لا يقول لشيء إنه النهاية، بل لابد من أن يكون كل تغيير لديه بداية، بداية لشيء أفضل أتى في وقته المناسب، فلم تعد تزعجني كلمة خريف العمر التي سمعتها من الكثير من أمثالي ممن تقدم بهم العمر، فلقد أصبحت تعني لي هذه الكلمة بداية لحياة أردت لها أن تكون هكذا بعد تحرري من قيودي، فأصبحت كأوراق الخريف.
بقلم:
ريم السباعي