إبداعات كلمتنا| “صباح الفرج فيّاض”

نهض حمدي مفزوع من نومه على صوت طرقات عنيفة على باب شقته جعلته يهرول لمعرفة صاحبها وهو يسب ويلعن الكوكب والمجرة والمجموعة الشمسية بأكملها، فتح الباب بوجه عابث مقتضب ليتفاجئ بسيدة خمسينية في غاية النحافة بجلباب مزركش باهت الألوان يعود تصميمه لثلاثينيات القرن الماضي ووشم أخضر يزين ذقنها وحلق نحاسي مستدير حجمه ضعف مساحة خدها المسحوب للداخل نحو فراغ جمجمة رأسها، تفحصها بدهشة وصمت لثوان قبل أن تبتسم وتكشف عن أسنانها الصفراء ذات التباين الواضح في حجمها، الصف العلوي أسنان عريضة معوجة للداخل والأسنان السفلية شديدة الصغر وتامة التلاصق بدت كما لو كانت قطعة واحدة صلبة،
– صباح الخير يا بيه
– صباح النور.. أامري!
– صباح الفرج
لوى فمه بضيق وهو يستنتج أنها تبحث عن عطية أو هبة،
– علينا وعليكي يا ست.. الله يسهلك
– لأ يا بيه أنا صباح.. صباح الفرج فياض
حدق فيها وهو يفرك جبينه يبحث عن إسمها في ذاكرته الضعيفة دون جدوى حتى صاحت بإعتزاز لا محل له من الإعراب،
– أنا يا بيه اللي جيالكم من طرف عم شوقي الصفتي
انتبه للإسم وفهم سبب الزيارة وأجبر فكه على الحركة ورسم إبتسامة باهتة على وجهه وهو يفسح لها المجال للعبور ودخول الشقة، المعلم شوقي متعهد توريد خادمات لسكان الحي والمنطقة، أخبرته زوجته رباب الدكتورة الجامعية أنها هاتفته وطلبت خادمة جديدة بعد إنقطاع خادمتهم عن العمل بدون إبداء أي أسباب،
وقفت صباح بمنتصف الصالة تتفحص الشقة بنظرات كبرياء تليق فقط على ملامح مستأجر خليجي يبحث عن شقة مفروشة لقضاء عطلة الصيف، نفذ صبر حمدي وهو يرغب في العودة لفراشه وإكمال نومه،
– المطبخ قدامك على اليمين
استدارت له بخفة واضحة وهى تشمر ساعديها بحماس وتهتف بصوتها الرفيع الحاد المزعج أكثر من طريقة طرقها على الباب،
– اومال فين الست هانم؟
– الدكتورة في الجامعة بترجع بعد الضهر
– وماله مجراش ما هو لازمن الست مننا تشتغل وتساعد جوزها على المعيشة، حاكم المعايش بقت صعبة والدنيا خيرها قل،
فين أيام زمان لما كانت الست ست والراجل راجل والست مننا تقعد متستتة في دارها وجوزها هو اللي يجري عليها وعلى عيالهم لكن نقول ايه بس، زمن عايب وبدّل حال الناس وأهي البيوت بيبانها مقفولة على بلاوي..
ثم رفعت يديها بإجلال وورع وهى تتمتم بخشوع،
– عفوك وسترك يا كريم
طريقتها في الكلام المتلاحق المتدفق جعلت حمدي يشعر ببداية صداع في مقدمة رأسه وضياع رغبته في النوم مرة أخرى، ألقى بجسده المتعب فوق أقرب مقعد خلفه ونظر لها بطيبة لا أصل لها ولا جذور بداخله،
– بصي يا ست صباح، مبدئيًا كده في جنب باب الشقة جرس علشـ…
قاطعته بحماس وإدعاء للنباهة وهى تضرب بطن يدها اليسرى بظهر كفها الأيمن،
– أيوة يا بيه ماني عارفة بس قلت في عقل بالي ألا يكون البيه نايم والجرس يصحيه، أخبط أحسن علشان لامؤاخذة ست البيت هى اللي تسمع وتفتح، ما أعرفش يا ضنايا إنك لوحدك والست مش موجودة، بس يا كبدي هى بخاطرها، ما هي زيي بتجري على لقمة العيش،
هو في يعني واحدة غاوية خروج وشقى ومرمطة على الفاضي، ما تلاقيها يا نضري غصب عنها والود ودها لا تروح ولا تاجي، بس نقول ايه بس، ما هى الدنيا بقت زي الأرض المحروتة لا اللي ماشي سالك ولا الواقف مرتاح ولا حتى القاعد متهني..
فرك حمدي وجهه بكف يده وهو يشعر بقرب إنفجار مقدمة رأسه وتمالك نفسه بقدر المستطاع وقد قرر التخلي عن رسم الإبتسامات الزائفة على ملامحه،
– بتعرفي تعملي قهوة يا ست صباح؟
– ديهدي!.. إلا بعرف أعمل قهوة، طب دي الست مننا تتعرف من قهوتها ونضافة فنجانها، بالك أنت يا بيه حدانا في البلد لو ست عملت قهوة وطلع فنجانها صايص ولا الوش مرقع، وجاه النبي ما تبات فيها ليلة واحدة ولا تعمر دارها من بعديها، إلا أعرف أعمل قهوة قال، طب ده أني عليا فنجان قهوة بيتحَلَف بيه وحياتك يا بيه، أنت بس قولي تحبها ايه؟
تلفت حمدي حوله وهو يشعر بقرب إنفجار أحد شراينه وإلتقط علبة سجائره وأشعل سيجارة بتوتر،
– يا لهوي يا بيه!
سجاير كده على غيار الريق! لأ يا بيه ده ما يرضيش ربنا وحق جاه النبي، حقها الدكتورة…
قطعت حديثها وإبتسمت بخجل وهى تسأله وهى تضم جفونها للداخل،
– ألا هى الدكتورة إسمها ايه؟
جز حمدي على أسنانه وسحب نفس عميق وعميق من السيجار كاد يتسبب في بلعه حنجرته،
– رباب
ثم تمتم بهمس لم تسمعه أو تفهمه صباح،
– بنت …. الكلب
– عاشت الأسامي يا بيه، رباب روبة خير وهنا عليك وعلى قلبك، القصد يا بيه حقها برضك كانت تحضرلك لقمة قبل ما تسيبك كده وحداني يا ضنايا وتحرق صدرك بالسجاير، بس هانقول ايه يعني هى بخاطرها، ما البنية برضك معذورة وفي شغلها، هى يعني بتلعب ولا بتلعب ما هي مغلوبة على أمرها وما باليد حيلة، القصد يا بيه ما قلتليش قهوتك ايه؟
زفر بملأ صدره وهو يسترخي في مقعده ويستسلم للأمر الواقع وضياع أمله في قدرة للعودة للإسترخاء والنوم،
– قهوة زيادة
ضربت صباح على صدرها بفزع وجزع جعلوه ينتفض في مكانه وهو يراها تلوي فمها بإستهجان وتضع كف فوق كف فوق بطنها،
– ودي تبقى قهوة يا بيه؟!
هى لا مؤاخذة القهوة تتشرب وهى معسلة!
إن ما كانش النفر مننا يستطعم طعم البن في حنكه يبقى بلاها من القهوة خالص ويشرب شاي ولا يغليلوه شوية حلبة، هى صحيح الحلبة عدم المؤاخذة بتصنن العرق لكن ما أقولكش بقى على فوايدها ويا سلام بقى يا سيدي لو تشربها بحليب، بس الحليب ما يتغليش ده يتصب عليها بعد ما تستوي وبالهنا على بدنك..
بيد مرتعشة مد يده وأخرج سيجارة ثانية وضعها بجنب فمه دون أن يشعلها بعد أن لمحها ترمقه بنظرة رفض وإعتراض، إرتبك وشعر بخوف من لومها له إن فعلها مجددًا ودخن قبل أن ينعم بفوائد الحلبة بحليب، نهض وهو يتحاشى النظر لها وقد بات موقنًا أنها تستمد رغبتها في الثرثرة من تلاقي أعينهم فحدثها وظهره لها في طريقه لغرفته،
– خلاص يا ست صباح ما تتعبيش نفسك أنا هألبس وأنزل المكتب
تبعته كظله وهى تسأله بقلق وحيرة،
– ما قلتليش يا بيه أعمل ايه؟
أحضر غدا ولا أستنى الست أما ترجع، حاكم في ستات ما تحبش حد يعمل أكل من غير إذنها، اومال ايه مش هى صاحبة البيت وأدرى بيه من أي حد تاني، إفرض عملت حاجة وما لدش عليها عمايلي؟!
نرمي يعني نعمة ربنا ولا تاكلوا حاجة مش على هواكم، ده كله إلا اللقمة إن ما كانش الواحد ياكل اللي على هواه ومزاجه تبقى القمة مالهاش لازمة، على رأي المثل كل اللي يعجبك..
أخفى جسده خلف ضلفة الباب حتى أتم إرتداء ملابسه بهرولة ودون تركيز وهو يسرع من حركته ويتحاشى نطق أي حرف حتى لا يفتح لها طريق جديد للكلام، تجاهل ندائتها وهو يفتح باب الشقة ويغادر بخطوات سريعة أقرب للقفز حتى أنه خشي الوقوف وإستدعاء المصعد وفضل النزول على السلم خوفًا من أن تتبعه لخارج الشقة..
فور ركوب سيارته إتصل برباب وقبل أن ينطق بحرف كانت تطلب منه بعصبية سرعة الكلام لإنشغالها بأحد محاضراتها، كتم غضبه وإكتفى بأن أخبرها بعبارة مختصرة بوصول الخادمة الجديدة وأنه تركها في الشقة وخرج مبكرًا بسبب شغل هام..
أنهت رباب عملها وعادت مرهقة لتقابلها صباح وترحب بها بخفاوة مبالغ فيها رغم أنه لقاءهم الأول، إبتسمت رباب بسعادة من حسن استقبال صباح لها وسألتها مبتسمة؟
– حضرتي غدا؟
– لأ يا ستي، أني سألت البيه قبل ما ينزل وقالي ما أعملش حاجة غير لما الدكتورة ترجع
لوت رباب فمها بضيق وتمتمت بصوت مسموع،
– الله يسامحك يا حمدي ما تعرفش تتصرف في حاجة أبدًا
أشاحت صباح بيدها معلنة موافقتها الرأي وهى تقترب منها وتجلس بجوارها،
– الشهادة لله سي الأستاذ راجل ذوق ومحترم يكش بس هو كشري حبتين وكلامه كتير أوي أوي لما توهني معاه ولحد ما نزل ما عتقنيش وياريت بس بفايدة ولا عرفني حتى أعمل ايه وما أعملش ايه
أومأت رباب برأسها بشرود وهى تعلن تأيدها وتضامنها معها في الرأي،
– هما الرجالة كده ما ناخدش منهم غير كلام.