كاتب ومقال

رؤى التحول الاقتصادي والطاقة| استثمار الدولة في المستقبل.. من الدعم إلى التمكين

في لحظة فارقة من تاريخها الاقتصادي تحاول الدولة المصرية أن تتحول من مجرد “راعية” إلى “مُمكّنة” للنشاط الاقتصادي وتحديدا للقطاع الخاص عبر مجموعة غير مسبوقة من المبادرات التي بدأت تتحول من مجرد شعارات إلى أرقام ومخصصات واقعية في الموازنة العامة. نحن لا نتحدث عن وعود فضفاضة بل عن خطة تمويلية واضحة تجاوزت 78 مليار جنيه موجهة لدعم التصدير وتحفيز الصناعة وتعزيز قطاع السياحة وتمكين الشباب والمشروعات الصغيرة.

لكن الأهم من الأرقام هو المنطق الجديد الذي يحكم هذه التوجهات. فقد أصبحت الدولة تفكر كفاعل اقتصادي يدرك أن النمو لا يمكن أن يأتي من الموازنات وحدها ، بل من تحرير الطاقات الكامنة داخل السوق ، ومنح القطاع الخاص ما يحتاجه من أدوات ، دون أن ترهقه بتشريعات أو إجراءات تجعله يفرّ من الفرص بدلا من اقتناصها.

ما الذي يعنيه أن تُخصص الدولة 44.5 مليار جنيه لبرنامج رد أعباء المصدرين؟ أو 8.4 مليار لدعم السياحة؟ أو 5.2 مليار لصناعة السيارات الكهربائية؟ نحن أمام مقاربة اقتصادية تعتمد على تعويض الفجوات البنيوية في الاقتصاد عبر استهداف دقيق للمجالات ذات الأثر السريع والمستدام . فالتصدير لا يحتاج فقط إلى تسهيلات بل إلى استرداد جزء من تكاليفه ، والسياحة لا تنتعش دون بنية تحتية وخدمة راقية والصناعة لا تنهض ما لم نضع أقدامنا بقوة في مستقبلها الكهربائي.

إنه من المنطقي أن تذهب الحكومة نحو دعم التحول إلى الغاز الطبيعي في النقل، أو تشجيع تمويل السيارات منخفضة الانبعاثات ، أو حتى إطلاق مبادرات تمويلية موجهة للشباب والمشروعات الصغيرة. لكن ما يجعل الأمر مختلفا هذه المرة هو أن كل مبادرة تحظى بتمويل واضح وشروط تمويلية ميسرة ، ونية معلنة للمتابعة والتقييم ، وهذا يرفع مستوى الثقة لدى المواطن والمستثمر وحتى المراقب.

غير أن السؤال الأهم يبقى: هل تكفي هذه المبادرات وحدها؟

الإجابة بلا تردد: لا. لأن البيئة الحاضنة للاستثمار لا تُقاس فقط بحجم الأموال المخصصة له بل بسرعة الإجراءات وعدالة الضرائب ، واستقرار التشريعات ، وشفافية التعاملات. ولهذا فإن إقرار الحكومة لأكثر من 50 إجراء في ملفي الضرائب والجمارك لتحفيز الاستثمار هو إشارة طيبة ، لكنها بحاجة إلى روح تنفيذية لا تقل طموحا عن النصوص المكتوبة.

لقد بدأت الدولة تدرك أن الإصلاح الحقيقي لا يبدأ من القمة وحدها بل من التفاصيل اليومية في الجمارك، والبنوك، ومكاتب التراخيص، وأن زمن الرهان على “المشروعات الكبرى فقط” قد ولى وأن الرهان الحالي هو على حيوية السوق وتوسّع الطبقة المنتجة وعلى خلق قيمة مضافة حقيقية تخرج من مصنع، أو غرفة فندقية، أو مركبة صديقة للبيئة.

ربما لا يشعر المواطن العادي بكل هذا الآن لكنه سيشعر قريبا إذا استمرت هذه السياسات بنفس الروح والعزم. لأن دعم المشروعات الصغيرة ، وتمكين الشباب من امتلاك وسيلة نقل حديثة، أو تمويل صناعات ناشئة، هو الذي يصنع الوظيفة ويوسع الطبقة الوسطى ويعيد التوازن بين الدولة والمجتمع.

في النهاية نحن أمام توجه استراتيجي لا بد أن نستثمر فيه ونتابعه بدقة. فالإرادة السياسية وحدها لا تكفي ما لم تُترجم إلى منظومة متكاملة يتشارك فيها القطاعان العام والخاص وتستند إلى عدالة في توزيع الفرص وصرامة في محاربة البيروقراطية وذكاء في استثمار كل جنيه من المال العام.

إن الدولة لا تشتري المستقبل بهذه المليارات لكنها تمهّد له طريقا أكثر اتساعا وعلينا نحن أن نمضي فيه، بلا تردد، وبأمل كبير.

بقلم:
شحاتة زكريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى