كاتب ومقال

تحية تقدير للسوبر ستار إسماعيل يس

أندهش عندما يفتقد الأصدقاء مفهوم السياق، رغم أنه مفهوم بسيط للغاية، ويتلخص في أن لكل زمن مفاهيمه وثقافته الخاصة التي ليست بالضرورة أن تنعكس على زمن آخر. وبالتالي، حين نحكم على شيء، يجب أن نضعه في ظرفه الزماني، وبالطبع المكاني.

على سبيل المثال، سيكون من العبث أن أقنع ابنتي ذات السبعة عشر عامًا، التي تعيش في عصر العالم الرقمي وتتابع باهتمام الفن الغربي، بأن تضحك على مشاهد ولقطات إسماعيل ياسين. بل إنه قد يكون من العبث أن تشاهده من الأساس، حيث إن هذا الجيل لا يدرك ولا يشد انتباهه إلا الشاشات الملونة، بينما الأبيض والأسود لا يجذب عيونهم بأي حال من الأحوال.

لاحظ، مثلًا، أن هذا الجيل لا يدرك أنه في زمن قريب كان هناك هاتف أرضي بسلك، وأنك قد لا تتمكن من الوصول إلى شخص ما لمدة عشرة أيام، لأنك حين تتصل به قد يكون غير موجود. فتضطر لترك رسالة له مع أهله، الذين قد يتذكرون أو لا يتذكرون، ومن ثم يبلغونه، فيحاول الاتصال بك، وهكذا. بينما هذا الجيل لا يعي فكرة وجود أي عائق قد يمنعك من التواصل مع شخص ما (لاحظ هنا أن الفكرة نفسها غير موجودة في أذهانهم).

إذن، فالسياق الذي يعيشون فيه مختلف عن السياق الذي عشنا فيه، مع الأخذ في الاعتبار أن العالم يتطور بسرعة مهولة.
المثال بسيط: الهاتف الأرضي احتكر طريقة التواصل لعقود، بينما خلال ربما عقدين فقط (عشرين عامًا)، انتقلت طريقة التواصل من الهاتف المحمول إلى الأجهزة الذكية، ثم إلى منصات التواصل الاجتماعي، وصولًا إلى الذكاء الاصطناعي. إنه لمح البصر بالفعل.

ضع كل ذلك في الاعتبار حين تود الحكم على إسماعيل ياسين. سيكون من السذاجة أن تقول إن إسماعيل ياسين غير مضحك، أو أنه يضحك الأغبياء، أو أنه سخيف، أو أن هناك مبالغة في تقديره. فبهذا تكون قد ارتكبت مغالطة فادحة؛ إذ كان إسماعيل ياسين نجمًا سينمائيًا بالفعل، وكان شباك التذاكر شاهدًا على ذلك. كما أن هناك ملايين أحبوه، ليس فقط ممن عاصروه، بل أجيال جاءت بعدهم، وما زالوا مستمرين في حبه حتى الآن. إحصائيًا، قد يصل عدد محبي إسماعيل ياسين إلى 50 مليون إنسان على الأقل عبر السنين، وهم بالتأكيد ليسوا بالسذاجة التي يصفهم بها البعض.

ولكن لماذا يتطوع بعض العاملين في المجال الفني هذه الأيام لإطلاق هذه التصريحات اللاذعة على التاريخ الفني لمصر؟ ما الذي يحدث؟ فجأة، نجدهم يستيقظون من غفلة ليقرروا أن إسماعيل ياسين شخص سيئ!

في رأيي، هؤلاء النجوم الناجحون للغاية، أولًا: لا يدركون السياق، وثانيًا، وهو الأهم، وضعوا أنفسهم في مكانة عالية قد يستحقونها أو لا يستحقونها. ومن ثم، ومن فوق هذا المقعد العالي، الحقيقي أو المصطنع، تصوروا أن من حقهم إطلاق الأحكام الجازمة دون أي تفكير، أو ثقافة، أو مرجعيات، أو اعتبارات فنية،أو علمية.

أفهم تمامًا أن يقول هذا النجم: “أنا لا أحب إسماعيل ياسين، إنه لا يضحكني”، فهذا رأي شخصي مقبول. لكن أن يقول ما يعني أنه مبالغ في تقديره، أو أنه أسوأ ممثل في تاريخ مصر، فهذا غير مقبول فنيًا، أو علميًا، أو منطقيًا.

النقطة الثالثة: ما هو التمثيل؟

في الواقع، حتى التمثيل يتغير مع تغير الزمن. وهناك وقائع تؤكد أن التمثيل في الماضي كان أفضل بكثير، في حين أن هناك اليوم حفنة من الممثلين أو المخرجين الذين يجب أن يتركوا المجال الفني فورًا. فهم، مقارنة بإسماعيل ياسين، مجرد هواة خدمهم الحظ أو القرابة أو الواسطة، ومع ذلك، استمروا رغم ضعف أدائهم.

في عام 1595، قدم شكسبير عرضًا مسرحيًا في بلاط الملكة إليزابيث الأولى احتفالًا بالعام الجديد، مع فرقة من الممثلين كانت تحت رعاية اللورد تشامبرلين. وبطبيعة الحال، كان أداؤهم المسرحي مبالغًا فيه، وكانوا يصرخون ليسمعهم الجمهور، وربما لم يفهموا تعقيدات الأداء التمثيلي كما نفهمها اليوم. فهل نقوم بإلغاء هذا الجزء من التاريخ لأن الأداء كان مبالغًا فيه؟ هل كان الجمهور الذي حضر هذه العروض، التي هزت لندن، سعيدًا أم كان ينتظر أحدًا ليأتي بعد 500 سنة ليكشف ضعف هذا الأداء، ومن ثم يشعر بالخزي؟
شكسبير نفسه كتب العديد من المسرحيات عن ملوك إنجلترا، مثل هنري السادس (3 مسرحيات)، ريتشارد الثالث، إدوارد الثالث، هنري الرابع، هنري الثامن، بالإضافة إلى الملك لير. فهل نتهمه بالسذاجة لتكرار تجاربه بشكل مفرط، بينما كانت هذه العروض الملحمية تؤجج مشاعر الجماهير في حينها، وربما حتى اليوم؟

دع الفن وانظر إلى الثقافة.
إن إطلاق الأحكام الجزافية، وادعاء الخبرة العميقة، والتظاهر بالفهم خارج الإطار المعرفي، أصبحت سمات شعبية مصرية. فالجميع “يفتي”، والجميع “يفتي” بعكس ما يقال، دون امتلاك أي مرجعية لما يُقال.

ليكن في “معلومك” إن رحلة إسماعيل ياسين، من مونولوجست إلى ممثل صغير في فرقة بديعة مصابني، ثم ممثل كبير، ثم صاحب فرقة مسرحية، ثم نجم شباك وسوبر ستار، هي رحلة تستحق أن نتعلم منها الكثير والكثير.

بقلم: فيصل شمس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى