كاتب ومقال

رؤى التحول الاقتصادي والطاقة| سلاسل التوريد والصناعة المحلية: كيف نُخرج القيمة من الداخل؟

مع التحولات المتسارعة في الاقتصاد العالمي من اضطرابات جيوسياسية إلى تحديات مناخية وصحية، أصبح الحديث عن بناء سلاسل توريد محلية متكاملة ليس ترفا اقتصاديا بل ضرورة استراتيجية. فالدولة التي تستطيع تأمين احتياجاتها الإنتاجية من الداخل، وتقليل تعرضها للصدمات الخارجية، تضع نفسها في موقع أكثر أمنا ومرونة واستقرارا.

سلاسل التوريد ليست مجرد مسارات لنقل السلع والمواد الخام بل هي العمود الفقري لأي اقتصاد صناعي حديث. من اللحظة التي تُستخرج فيها المادة الخام إلى لحظة وصول المنتج النهائي للمستهلك، تتوزع القيمة عبر سلسلة طويلة من العمليات: تصنيع، نقل، تخزين، تسويق، وخدمات لوجستية. وكلما امتلكت الدولة مكوّنات هذه السلسلة محليا كلما ازدادت قدرتها على خلق فرص عمل، وتعظيم القيمة المضافة والحد من فاتورة الاستيراد.

في هذا السياق يأتي دور الصناعة المحلية بوصفها المحرك الأهم لتوطين سلاسل التوريد. فحين تتوافر بيئة صناعية مرنة ومبنية على التكامل بين القطاعات ، تصبح الدولة قادرة على إنتاج ما تحتاجه، بل وتصدير ما ينتجه الآخرون بصيغة أكثر تنافسية. ليس الهدف فقط إحلال الواردات بل أيضا فتح آفاق جديدة للابتكار والتخصص والنمو.

وقد أثبتت الأزمات العالمية وعلى رأسها جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا أن الاعتماد الزائد على الخارج يمكن أن يؤدي إلى تعطل المصانع، ونقص السلع وارتفاع التكاليف. بالمقابل فإن بناء قاعدة إنتاجية وطنية مستندة إلى مكونات محلية يضمن نوعا من “الأمن الصناعي” لا يقل أهمية عن الأمن الغذائي أو الأمن القومي.

تمتلك مصر على سبيل المثال مقومات واعدة لإعادة هندسة سلاسل التوريد بما يخدم أولوياتها التنموية. من موقع جغرافي متميز إلى قاعدة صناعية متنوعة وشبكة بنية تحتية آخذة في التطور. لكن التحدي لا يكمن فقط في ما نملك بل في كيفية الربط بين القطاعات المختلفة، وتحفيز التصنيع المحلي وتوفير مستلزمات الإنتاج محليا قدر الإمكان.

إن تطوير سلاسل التوريد المحلية لا يعني الانغلاق، بل هو توجّه ذكي نحو تقليل المخاطر وتحقيق أقصى استفادة من الموارد. ويمكن للدولة أن تعزز هذا التوجه عبر سياسات داعمة: تشجيع الاستثمار في الصناعات المغذية، توفير الحوافز للموردين المحليين، دعم البحث والتطوير في مجالات التكنولوجيا والتصنيع وربط التعليم الفني باحتياجات السوق.

كما أن القطاع الخاص له دور حاسم في هذا المسار من خلال تبنّي مفاهيم الجودة وتعميق التصنيع وبناء شراكات مع الموردين المحليين. فكل خطوة نحو إنتاج مكوّن محلي جديد تعني خطوة نحو تقوية الجذور الاقتصادية للدولة.

في النهاية فإن بناء سلاسل توريد محلية قوية ليس مجرد مشروع اقتصادي بل رؤية استراتيجية تؤسس لاقتصاد أكثر سيادة واستقلالا. فالقيمة لا تُولد فقط من الاستيراد أو التصدير بل من قدرة الدولة على خلق حلقة إنتاج متكاملة تبدأ من داخلها وتعود إليها فتدور عجلة التنمية بثقة ومن الداخل.

بقلم:
شحاتة زكريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى