نساء في مرمى الغضب

في السنوات الأخيرة، لم تعُد حوادث قتل النساء على أيدي أزواجهن مجرّد أخبار عابرة في صفحات الحوادث، بل تحوّلت إلى ظاهرة مقلقة تكشف عن خلل عميق يضرب جذور المجتمع. تتوالى القصص المأساوية — زوجة تُقتل بدافع “الغيرة”، وأخرى تُطعن لأنّها طلبت الطلاق، وثالثة تُحرق لأنها أرادت أن تختار مصيرها — حتى غدا السؤال ملحًّا: كيف أصبح العنف، بل القتل، أمرًا سهلًا إلى هذا الحد؟
البيت الذي كان من المفترض أن يكون مساحة للأمان والحب، تحوّل في حالات كثيرة إلى ساحة للعنف والترهيب. هذه الجرائم ليست مجرد نزوات لحظية أو خلافات عائلية خرجت عن السيطرة، بل هي انعكاس لمنظومة فكرية ونفسية واجتماعية معقدة تُغذّي ثقافة السيطرة الذكورية وتُشرعن الإيذاء.
من الزاوية النفسية، يمكن القول إنّ الرجل الذي يلجأ للعنف ضد شريكته يعاني غالبًا من هشاشة نفسية عميقة، تتخفّى خلف قناع القوة والسيطرة. هو رجل يشعر بالعجز أمام المرأة القادرة على اتخاذ القرار، فيحاول إخضاعها ليُثبت لنفسه أنه “ما زال الأقوى”. هذه الحاجة المرضية للهيمنة تنبع في الغالب من تراكمات طفولية — ربما شاهد عنفًا في بيته، أو نشأ في بيئة تربط الرجولة بالتحكم والسيطرة لا بالاحتواء والمسؤولية.
وفي بعض الحالات، تتضاعف خطورة الأمر حين يقترن هذا الاضطراب النفسي بعوامل خارجية، مثل ضغوط الحياة الاقتصادية أو تعاطي المواد المخدّرة أو الكحول، فتتحوّل أي لحظة خلاف إلى شرارة كارثية.
لكن العنف لا ينشأ من الفرد وحده، بل من بيئة تبرّره وتغذّيه. المجتمع الذي يربّي أبناءه على أن “الزوجة تُطاع” وأن “الرجل لا يُسأل عما يفعل في بيته”، هو مجتمع يشارك – بصمته وتبريره – في كل جريمة تقع. حين تُبرّر الإهانة بأنها “مجرد غضب”، ويُنظر إلى المرأة التي تشتكي على أنها “تفضح بيتها”، نكون أمام ثقافة تُمهّد الطريق للعنف وتغسل يدها منه في الوقت ذاته.
أما من الناحية القانونية، فعلى الرغم من وجود قوانين تُجرّم العنف الأسري، فإن التطبيق ما زال هشًّا، والردع غير كافٍ. كم من امرأة لجأت إلى الشكوى ولم تجد حماية حقيقية؟ كم من ضحية قُتلت بعد أن أبلغت الجهات المختصة ولم تُؤخذ شكواها بالجدية الكافية؟
العدالة لا تتحقق فقط بوجود القوانين، بل بوجود إرادة لتفعيلها دون تهاون أو مجاملة، وبنظام حماية حقيقي يوفر الأمان لكل امرأة مهددة.
لا يمكن إنكار أنّ الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي لعبا دورًا مزدوجًا في هذه القضية. فمن ناحية، ساهمت في كشف الكثير من الجرائم وإثارة الرأي العام، لكنها في الوقت ذاته كثيرًا ما وقعت في فخ التبرير أو الإثارة، حين تُقدّم القاتل في صورة “الزوج المقهور” أو “الضحية لظروفه”، بدل أن تضع الحقيقة في موضعها الصحيح: لا مبرر للعنف، ولا عذر للقتل.
نحن اليوم أمام أزمة قيمية بقدر ما هي اجتماعية. إذا استمر صمت المجتمع وتبريره، فسنجد أنفسنا أمام أجيال تنشأ على فكرة أن القسوة شكل من أشكال الرجولة، وأن المرأة التي ترفض الخضوع تستحق العقاب. ولعل أخطر ما في الأمر أن يصبح القتل نتيجة منطقية لعلاقة فقدت التوازن والاحترام.
إنّ مواجهة هذه الظاهرة لا تتطلّب فقط تشديد العقوبات، بل تستلزم ثورة وعي تبدأ من البيت والمدرسة، حيث يُعاد تعريف معنى القوة الحقيقية — القوة التي تحمي لا تؤذي، وتحتوي لا تسيطر.
الإصلاح يبدأ من التربية على المساواة، وعلى أن الخلاف لا يُحلّ بالعنف، وأن المرأة ليست ملكًا، بل إنسانًا كامل الكرامة والحقوق.
رسالة إلى المجتمع:
حين تُقتل امرأة على يد من أحبّته، فالجريمة لا تنتهي بموتها؛ بل تبدأ منها. تبدأ بسؤال يجب أن نطرحه جميعًا: كيف وصلنا إلى هنا؟
إنّ إنقاذ النساء من العنف لا يكون بالشعارات، بل بالفعل، بتربية جديدة، بثقافة تحترم الحياة، وبموقف مجتمعي لا يبرّر القسوة تحت أي مسمّى. فحين نصمت، نشارك في الجريمة، وحين نُبرّر، نُمهّد لجريمة جديدة
بقلم:
وفاء حسن




