روايات عالمية| “الجريمة والعقاب.. أضداد دوستويفسكي”
وراء كل رواية حكاية عظيمة، تعالى أحكيهالك

ما لفت نظري لدوستويفسكي ككاتب رواية أمرين، الأول أن أينشتاين وفرويد تحدثا عن دوستويفسكي بإجلال شديد، ثانيا الحادثة التي تعرض لها دوستويفسكي شخصيا أثناء وجوده في سجن في سيبيريا حين حكم عليه بالإعدام وتم العفو عنه وهو أمام كتيبة الإعدام والبنادق مصوبة إلى صدره، اللحظات الأخيرة أعادت لدوستويفسكي وعيه بقيمة الكتابة والحياة والنظر عميقا في بئر النفس البشرية، تعد رواية الجريمة والعقاب لفيودور دوستويفسكي من هذا المنظور واحدة من أعظم الأعمال الأدبية في تاريخ الأدب العالمي، وتحمل في طياتها أعمق التناقضات الإنسانية بين الخير والشر، الذنب والتوبة، العقل والضمير. هنا سأحاول في هذه الرحلة القصيرة معك عزيزي القارئ أن نرى معا الأسباب التي جعلت من هذه الرواية تحفة إنسانية خالدة.
ليست مجرد رواية عن بئر النفس البشرية الغويط
ما معنى أن يرتكب الانسان جريمة؟ يتحدث الروائي عن حالة فريدة تتعلق بالإحساس بالذنب، العقاب الذاتي الذي هو أعمق ألف مرة من العذاب الذي سيتلقاه الانسان في السجن أو من نظرات الآخرين له، في روايته الشهيرة الجريمة والعقاب، لا يقدّم فيودور دوستويفسكي مجرد قصة جريمة عادية، بل يصنع ككل صانع ماهر تحفة أدبية، عملاً أدبيًا فلسفيًا نفسيًا يغوص في بئر النفس الإنسانية بكل مافيها، حيث تتصارع داخلها القوى الأخلاقية مع الشكوك الفكرية، والضمير مع المنطق، والإيمان بالإنسانية مع ازدرائها. تدور أحداث الرواية حول الشاب الفقير راسكولنيكوف، الذي يرتكب جريمة قتل المرابية العجوز أليونا إيفانوفنا ، مستندًا إلى نظريته التي كتب عنها مقالا والتي تُفرِّق بين “الإنسان العادي” و”الإنسان الخارق”، وفي هذه النظرية لكنه سرعان ما يُدرك أن الجريمة ليست مجرد فعل مادي، بل عبء نفسي يُلاحقه في كل لحظة. فرق القاتل بين نوعين من البشر هما الإنسان العادي وهو الكائن الخاضع للقوانين، المطيع، الذي لا يملك القدرة أو الجرأة على تجاوز القيم والقواعد السائدة. يعيش ضمن إطار المجتمع ويعمل على الحفاظ على النظام القائم، والإنسان الخارق أو “الرجل العظيم” وهو شخصية استثنائية، مثل نابليون أو ليونادس (الملك الإغريقي الذي حارب بجيش قوامه 300 جندي اغريقي جيش الفرس المكون من 60 ألف جندي)، ترى أن بإمكانها تجاوز القانون الأخلاقي والقانون الوضعي إذا كان ذلك من أجل تحقيق غاية عليا أو خيرٍ أعظم للبشرية. هذا النوع من البشر يصنع التاريخ، ولا يخضع للضمير العادي لأنه يرى أن “الغاية تبرر الوسيلة”.
وبناء على هذه الرؤية الفلسفية فإن قتل راسكولنيكوف للمرابية ليس جريمة عادية، بل تجربة لاختبار صحة نظريته. هو يرى في العجوز شخصًا ضارًّا للمجتمع، تستغل الفقراء وتمتص دماءهم، وبالتالي فإن التخلص منها هو خيرٌ عام. كما أن المال الذي سيحصل عليه من سرقتها يمكن أن يُستخدم لأعمال الخير، أو على الأقل يُنقذه من الفقر ويساعده على استكمال دراسته وتحقيق طموحاته، هو ما يبرر، في نظره، استخدام العنف.
إضافةً إلى ذلك، يعتقد راسكولينكوف أن إذا كان حقًّا من “البشر الخارقين”، فلن يشعر بتأنيب الضمير بعد القتل، بل سيتصرف ببرود وثقة، كمن ينفذ “مهمة تاريخية”. أما إذا شعر بالذنب والارتباك، فسيكون دليلاً على أنه ليس سوى إنسان عادي، وبالتالي فنظرية تفوقه باطلة.
التناقض الداخلي والانهيار النفسي
لكن بعد ارتكاب الجريمة، ينهار راسكولنيكوف نفسيًّا وأخلاقيًّا. يغمره الشعور بالذنب، والقلق، والهلاوس، والعزلة مما يفضي إليه إلى حالة دائمة من الاكتئاب، لكنه قادر دائما على النفاذ لكل خلجاته الأخلاقية. وهذا كان كافيا ليثبت أن نظرية المفاضلة بين البشر العاديين والخارقين هي نظرية واهية، وأنه لا يوجد إنسان يستطيع أن يتجاوز الضمير الإنساني الأساسي، مهما اعتقد في تفوقه الفكري أو الأخلاقي.
الرسالة الفلسفية والدينية في الرواية
من خلال رحلة راسكولنيكوف، ينتقد دوستويفسكي النزعات العقلانية والنيتشوية المبكرة (قبل نيتشه بسنوات!) التي تُعلي من قيمة الفرد الاستثنائي على حساب القيم الإنسانية والدينية. الرواية تُظهر أن الضمير الإنساني لا يمكن تجاوزه عبر المنطق وحده، وأن الخلاص الحقيقي لا يأتي من التفوق أو القوة، بل من التوبة، والمعاناة، والمحبة، وهو ما يتجسّد في شخصية سونيا، التي تمثّل التواضع، الإيمان، والتضحية؛ لذا فإن قتل المرابية لم يكن مجرّد جريمة مادية، بل اختبار فلسفي فاشل لكشف طبيعة الإنسان وحدود تفوّقه المزعوم.
شخصيات الرواية: مرايا متعددة للنفس الإنسانية
روديون راسكولنيكوف، بطل الرواية، شخصية معقدة ومتناقضة. يجمع بين الذكاء الفذ والضعف الإنساني، بين التفكير الفلسفي العميق والانهيار النفسي. جريمته لا تُبرَّر فقط بالفقر أو اليأس، بل أيضًا بتفكيره الذي يُعلي من شأن “الإنسان الخارق” الذي له الحق في تجاوز القوانين من أجل الخير الأعظم. لكن دوستويفسكي لا يتركه في برِّ نظريته، بل يُجبره على مواجهة تبعات فعلته، فيرى كيف تتحوّل الجريمة إلى عذاب داخلي لا يُطاق، وكيف يصبح الاعتراف والتوبة الطريق الوحيد للخلاص.
سونيا مرملادوفا، الفتاة الفقيرة التي باعت جسدها من أجل إعالة عائلتها، تمثل نقيض راسكولنيكوف. هي ضعيفة من حيث المال والسلطة، لكنها قوية بالإيمان والرحمة. تقرأ الإنجيل عليه، وتُصغي إلى معاناته دون حكم. تُمثّل سونيا روحًا بشرية لم تُفقد رغم كل الظروف القاسية، وهي التي تقود راسكولنيكوف في النهاية إلى الاعتراف والتوبة، مُظهرة أن الخلاص لا يأتي عبر العقل أو النظرية، بل عبر المحبة والتضحية.
بورفيري بتروفيتش، المحقق الشرطي، هو شخصية ذكية تُدرك أن الجريمة لا تُحل بالقوة فقط، بل بالفهم النفسي. لا يُلقي القبض على راسكولنيكوف فورًا، بل يمنحه الفرصة ليعترف بنفسه، مُدركًا أن الاعتراف هو بداية العقاب الحقيقي، والذي قد يكون أيضًا بداية التوبة.
جمال الرواية الإنساني: في أعماق الظلام، يُولد النور
ما يُميّز الجريمة والعقاب ويجعلها تحفة إنسانية هو أنها لا تُقدّم الشر كنتيجة نهائية، بل كمرحلة عابرة في رحلة الإنسان نحو التغيير. دوستويفسكي لا يُبرّئ راسكولنيكوف، لكنه لا يُدينِه أيضًا بشكل مطلق. يُظهر أن حتى أعمق الجرائم يمكن أن تُؤول إلى توبة، وأن الضمير الإنساني قادر على النهوض حتى من تحت الركام.
تُبرز الرواية جمال الإنسانية، وأن هذا الجمال لا يكمن في كمالها، بل في قدرتها على الاعتراف بالخطأ والرغبة في التغيير. إنها دعوة للتعاطف، حتى مع أولئك الذين سقطوا في وحل الجريمة، لأن في داخل كل إنسان بقعة من النور، مهما كان الظلام خارجه.
الجريمة والعقاب: قراءة فلسفية ودينية في أعماق الإنسان
حسنا دعنا نضيف ذلك عزيزي القارئ إلى جمال رواية الجريمة والعقاب، حيث لا يقدّم دوستويفسكي مجرد قصة جريمة، بل يصنع نصًا فلسفيًا دينيًا يطرح أسئلة وجودية عن طبيعة الإنسان، حدود العقل، ودور الإيمان في الخلاص. إنها رحلة إلى قلب الإنسان المُحطَّم، حيث تتصارع قوى الخير والشر، العقل والضمير، الإيمان واللاأدرية.
يرتكب راسكولنيكوف جريمته مستندًا إلى نظريته التي تُقسّم البشر إلى فئتين: “العاديين” الذين يخضعون للقانون، و”الخارقين” الذين يحق لهم كسر القوانين من أجل تحقيق غايات سامية. هذه النظرية ليست مجرد تبرير للجريمة، بل تمثل تمردًا فلسفيًا على المطلقات الأخلاقية، ومحاولة لإنكار وجود قيمة مطلقة للحياة الإنسانية.
يقول راسكولنيكوف مبررا الغاية الأخيرة من أفكاره “إذا وجب على أحدهم، من أجل تحقيق فكرته، أن يخطو فوق جثة، أو فوق بركة دم، فإنه يستطيع (في رأيي) أن يعزم أمره على أن يخطو فوق الجثة، أو بركة الدم، مرتاح الضمير” .
لكن دوستويفسكي لا يترك هذه النظرية تمر دون تحدي. فبعد الجريمة، يبدأ راسكولنيكوف في الانهيار النفسي، مما يُظهر أن العقل لا يستطيع أن يحلّ محل الضمير، وأن الإنسان لا يستطيع أن يكون “إلهًا” دون أن يدفع ثمنًا باهظًا. فالعقاب الحقيقي، كما تُظهر الرواية، ليس القانون الخارجي، بل “محاكمة النفس” التي تكون “أصعب وأبغض من المحاكمة الأرضية” .
الدين: التوبة كطريق للخلاص
رغم أن راسكولنيكوف ينكر الإيمان في البداية، إلا أن الرواية تُظهر أن الخلاص لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال التوبة والرحمة. وتُجسد سونيا هذا الدور الروحي، فهي التي تقرأ عليه قصة “إحياء لعازر”، وتدفعه إلى الاعتراف بجريمته. سونيا، رغم بؤسها وعملها في الدعارة، تمثل قيمة الرحمة والتضحية، وتُظهر أن القداسة لا تكون بالقوة أو العقل، بل بالحب والخضوع لله.
“الخلاص لا يتحقق إلا عبر مواجهة النفس والاعتراف بما تم ارتكابه، وهذا ما تحقق في النهاية عندما قرر البطل الاعتراف بجريمته، وهو ما يمثل بداية التحول الروحي له” .
الرواية تُظهر أن الإيمان ليس مجرد شعور، بل خيار أخلاقي. فعندما يعترف راسكولنيكوف أخيرًا بجريمته، فإنه لا يُسقط فقط عبء الذنب، بل يبدأ أيضًا في إعادة بناء إنسانيته. وهنا تظهر فكرة التكفير كضرورة دينية، لا للتخلص من العقاب فقط، بل للعودة إلى الحياة، إلى الله، وإلى الآخرين.
العدمية والإيمان: صراع دوستويفسكي الشخصي
ما يجعل الرواية أعمق هو أن دوستويفسكي نفسه مرّ بتجربة مشابهة. فقد كان في شبابه من المثقفين الثوريين الذين رفضوا الدين والسلطة، وكاد يُعدم بسبب انتمائه لجماعة سرية. لكن بعد نفيه إلى سيبيريا، بدأ يعيد النظر في أفكاره، وهذا ما أشرت إليه في بداية هذه المقالة، من أن تجربته العقلية والروحية في سيبيريا غيرت كل أفكاره وعقائده.
بقلم
د. زين عبد الهادي
الكاتب والأكاديمي



