رؤى التحول الاقتصادي والطاقة| الاقتصاد الذي ينهض من حجر.. المتحف المصري الكبير بوابة الثراء الحضاري

في لحظة تبدو للوهلة الأولى ثقافية الطابع يُفتتح المتحف المصري الكبير ليُعلن للعالم شيئا أكبر من مجرد حدث أثري أو سياحي.
إنه إعلان عن ولادة فكرة جديدة للثروة ثروة لا تُستخرج من باطن الأرض بل من أعماق الوعي الإنساني نفسه.
فبينما تنشغل دول العالم بالصناعات الثقيلة والتكنولوجيا المتقدمة، تذكّرنا مصر — بهدوء وثقة — أن لديها ذهبا من نوع آخر ذهبا لا يُباع ولا يُستهلك بل يزداد قيمة كلما مرّ عليه الزمن: حضارتها.
منذ عقود كان يُنظر إلى المتاحف على أنها أماكن للعرض والتوثيق والتاريخ ، لكن المتحف المصري الكبير يغيّر هذه الفكرة جذريا. فهو ليس مجرد قاعة ضخمة للتماثيل بل استثمار في ذاكرة البشرية ، ومشروع اقتصادي بمعناه الأعمق: مشروع لتوظيف الجمال والهوية كقوة إنتاجية تدرّ دخلاً وتبني صورة الدولة.
من هنا يبدأ التحول من “التراث كماضي” إلى “التراث كطاقة مستقبلية”.
في هذا المتحف تتلاقى الحضارة مع التنمية والفن مع الاستثمار والعلم مع السياحة. كل زاوية فيه تحكي قصة لا عن ملوك الفراعنة فحسب، بل عن دولة تفكّر بعقل حديث وتستثمر في أصلها الإنساني الأعمق. فحين تقيم مصر هذا الصرح العملاق عند أقدام الأهرامات ، فهي لا تستعرض ماضيها بل ترسم ملامح اقتصادها القادم حيث تتحوّل الثقافة إلى مورد قومي ، والتاريخ إلى صناعة قادرة على المنافسة في السوق العالمي.
في السنوات الأخيرة تغيّر العالم جذريا.
لم تعد الثروات تُقاس بما تملكه من معادن أو بترول بل بما تملكه من رموز وقدرة على التأثير.
القوة الناعمة صارت هي العملة الأعلى قيمة في زمن متخم بالمعلومات والخيارات.
ومن يملك القدرة على صياغة “السردية” التي تبهر العالم يملك السيطرة على الوجدان الإنساني ومن ثم على القرار السياسي والاقتصادي أيضًا.
والمتحف المصري الكبير هو مشروع يختصر هذه الفلسفة: قوة اقتصادية تُبنى بالجمال.
كل قطعة أثرية فيه هي “سهم” في سوق الوعي العالمي.
كل تمثال ليس مجرد تراث بل استثمار في الخيال الإنساني في الدهشة التي تدفع ملايين البشر لعبور القارات فقط ليقفوا أمام حجر صامت يتحدث بلغة الخلود.
إنها معادلة الاقتصاد الحديث في أبهى صورها: الربح من القيمة وليس من المادة فقط.
ما تفعله مصر اليوم بوعي حضاري غير مسبوق هو إعادة تعريف معنى التنمية.
فالتنمية ليست أرقاما في تقارير النمو بل هي بناء وعي وثقة وصورة ذهنية تشجع الاستثمار وتغري السائح وتشعل الحلم في نفوس الشباب.
والمتحف المصري الكبير هو واجهة هذا الوعي الجديد لأنه يقول للعالم إن مصر لا تملك التاريخ فقط بل تعرف كيف توظفه في الحاضر.
فكر قليلا في المشهد:
أكبر متحف أثري في العالم يطل على أعظم عجائب الدنيا ويجمع في داخله أكثر من خمسين ألف قطعة تُروى بها قصة الإنسانية منذ بدايتها.
كل زاوية فيه تنطق برسالة: أن هذا الوطن الذي صنع أول حجر منقوش لا يزال يصنع أول فكرة مضيئة.
وأن من علّم الدنيا كيف تبني الهرم قادر أن يبني اقتصادا بحجم التاريخ ذاته.
وربما لم يدرك كثيرون أن هذا المتحف لا ينعش السياحة وحدها بل يفتح أمام الاقتصاد المصري سوقا جديدة بالكامل:
سوق الصناعات الإبداعية والمنتجات الثقافية والتقنيات المتحفية والفنون الرقمية وحتى الترويج الدولي للهوية المصرية كعلامة تجارية عالمية.
كل زيارة للمتحف تخلق عشرات فرص العمل وتُشغّل منظومة كاملة تمتد من الفنادق والنقل والخدمات حتى التعليم والإعلام والتجارة الإلكترونية.
بهذا المعنى يصبح المتحف مشروعا اقتصاديا شاملا لا يقل في أثره عن أي منطقة صناعية أو ممر تجاري.
لكن الأهم أن العائد الأكبر منه غير مادي: هو استعادة الثقة في الذات الوطنية.
ذلك الشعور الجمعي الذي يجعل المواطن فخورا بانتمائه حين يرى العالم يقف مبهورا أمام ما أنجزه أجداده وحين يلمس أن دولته لا تكتفي بحراسة الماضي بل تُعيد إحياءه بروح عصرية.
وهذا الوعي هو أعظم استثمار يمكن أن تضعه أي دولة في وجدان شعبها.
في لحظة الافتتاح حين تتجه أنظار الدنيا إلى القاهرة ستكون الرسالة واضحة:
أن مصر لا تُخاطب العالم بالسياسة فقط بل بالثقافة أيضا.
لا تنافس على الأسواق فحسب بل على العقول والقلوب.
وأنها وهي تحتفي بماضيها تُعلن أنها دخلت المستقبل من بوابة الحضارة.
لقد آن الأوان أن نُدرك أن المتاحف ليست للذكريات، بل لصناعة المستقبل.
وأن الأثر ليس شاهدا على ما كان.بل دليلا على ما سيكون.
وأن الاقتصاد في عصر المعرفة لا يبدأ من المصانع فقط بل من الفكرة، والرمز والقدرة على تحويل الشعور بالانبهار إلى قيمة اقتصادية تُقاس بالأرقام.
المتحف المصري الكبير ليس مجرد تحفة معمارية بل بيان وطني مكتوب بالحجر والنور:
أن هذا البلد العريق لا يعيش على أمجاد الماضي بل يستثمرها ليبني المستقبل.
ففي الوقت الذي تُهدر فيه بعض الأمم تاريخها في الصراعات تُحوّل مصر تاريخها إلى رأس مال وطني حيّ يربط بين السياحة والتعليم ، بين الاقتصاد والثقافة ، بين الماضي والمستقبل.
هكذا تصبح الحضارة المصرية ليست فقط أول حضارة في التاريخ بل أيضا أول نموذج اقتصادي للهوية القومية.
وحين يقول العالم إن “المستقبل يبدأ من هنا”، فلن يكون ذلك مجازا أدبيا بل حقيقة اقتصادية واضحة:
من بوابة المتحف المصري الكبير تبدأ رحلة مصر إلى مستقبل تصنع فيه الحضارة مرة أخرى، لكن هذه المرة بلغة الاقتصاد وبعقل يوازن بين الأصالة والتجديد وبقلب يعرف أن الثروة الحقيقية لا تُستخرج من باطن الأرض بل من روح وطن لا يشيخ أبدا.



