كلمة ورد غطاها| دبابيس العالم الرقمي

يعتبر الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت أبو الفلسفة الحديثة ومنهج الشك، ومن خلال نزعته العقلانية وميله إلى البساطة والوضوح، يعلي كثيرًا من قيمة العقل وأعماله، وهو صاحب المقولة “أنا أشك، إذًا أنا موجود”. وفي فترة المراهقة كنا نمزح قائلين “أنا أشك، إذًا أنا دبوس”، ونضحك كثيرًا، وكنا نتساءل: لماذا الشك؟ فالأمور واضحة. والحقيقة أن هذا الاعتقاد البريء الساذج هو أحد إشكاليات سذاجة بدايات العمر، لا أستطيع أن أفصله عن الاعتقاد في وجود “أبو رجل مسلوخة” أو “العصفورة” التي كانت تخبر أمي رحمة الله عليها بما أفعل في غيابها.
ومع دخولنا عصر الشبكات والمنصات والتطبيقات، أصبحت المعلومات متاحة للجميع بصور متعددة، ليست مكتوبة فحسب، بل مكتوبة ومسموعة ومرئية. ومع تطور البرامج ظهرت برامج تقوم بتعديل المحتوى بصوره المختلفة، ثم أتى عصر الذكاء الاصطناعي وانتشرت تقنيات التزييف العميق التي تستطيع أن تعدل أو تنشئ محتوى مختلق بالكامل وشديد الاحترافية، بحيث يصعب على الكثيرين اكتشاف زيفه. ليس هذا فحسب، بل أصبحت خوارزميات الذكاء الاصطناعي متحكمة فيما نرى وما لا نرى ومتى وكيف نرى أيضًا، وأصبحت قادرة على توجيه المجموعات والمجتمعات والشعوب بصورة سلسة وسهلة وخفية وخبيثة. ومهما حاولنا نشر الوعي، نجد الكثير من الضحايا الذين يقعون في شباك تلك التقنيات، ربما بدافع الرغبة في التصديق أو الاعتقاد بأنه ليس كل ما يُنشر يحتاج إلى أعمال العقل أو الشك.
الحقيقة أننا نحتاج إلى الشك دائمًا. فمنذ سنوات قليلة كنت أقول إنك لا تصدق أكثر من نصف ما تراه، ولكن ومع تطور تلك الأدوات، أصبحت أقول: لا تصدق أي شيء على الإطلاق. وابدأ دائمًا برفع سلاح الشك أمام كل ما يُعرض عليك، أي يتعين على مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي أن يتحولوا إلى دبابيس “تشك” أولًا قبل التصديق.
هذا الشك يحتاج إلى خطوات تالية للتحقق من المعروض، قد تكون من خلال البحث في مصادر أخرى – داخل الإنترنت وخارجها – والعودة إلى المراجع المعتبرة أو سؤال الخبراء. ثم بعد ذلك – وأحيانًا قبله – التفكير بعقلية منطقية لكي تصل إلى الحقيقة أو إلى الاقتراب منها قدر الإمكان.
على سبيل المثال، انتشر مقطع مصور منذ عدة أيام لزرافة تتحرك في منتصف نهر النيل، ويبدو من أسلوب التصوير وكأن المصور يقف فوق أحد الكباري مندهشًا. ثم مقطع آخر لطائرة تقوم بانتشال الزرافة من المياه. المشكلة أن البعض صدق، والكثير لم يلحظ كلمة “Sora” الموجودة كتابةً على مقطع الفيديو؛ فهذه هي تقنية لتحويل الكتابة إلى مقطع مصور، وهو ما يؤكد أن الفيديو مفبرك بواسطة تقنيات التزييف العميق. وحتى لو لم تكن مكتوبة، فإن الشك هو الحل. وعدد من الأسئلة كان من الواجب طرحها، مثل: كيف هربت الزرافة؟ وكيف قفزت في النيل؟ وهل يعمل النيل في هذه البقعة بحيث يسمح لها بالسير دون أن تغرق؟ ثم ينظر إلى حركة الزرافة داخل النهر. هل هي حركة طبيعية أم يبدو عليها أنها آلية أو ميكانيكية بدرجة كبيرة؟ وغيرها من الأسئلة التي يجب أن يسألها كل دبوس يشك أو كل إنسان يعقل.
البديل لذلك هو الاسترخاء وتصديق كل ما تراه، وهنا أعدك عزيزي القارئ أن مستشفيات الأمراض النفسية والعصبية ستمتلئ خلال بضعة أيام، ولن نجد متسعًا للمرضى الحقيقيين.


