كاتب ومقال

بائعة المناديل (2)

( ٢ )

وكأن الموت لا يقترب من الميادين، نادرًا ما تخرج جنازة من تلك البنايات الملتفة حوله متراصة كقطع الدومينو حول نرد منضدة قديمة يلعبها عجوزان يعانوا صعوبة في رؤية أرقام الزهر..

رائحة الموت تنتشر بالميدان وتجبر أصحاب المقاهي على غلق صوت المباريات وحجب حناجر أصحاب اللكنة الخليجية عن الصياح والهتاف الحماسي حتى وقت توقف اللعب..

كل من له عمل أو صلة بالميدان، يعرف الأستاذ “رؤوف”، العجوز البشوش صاحب أقدم دكاكين الميدان، يملك دكان صغير متواضع محشور بين مطعم الحاتي ومحل العطور الكبير، يبيع فيه كل شئ لا يحتاجه سكان الميدان، دكان عرضه متران وطوله متر ونصف..

يجلس خلف منضدة عريضة بعرض المحل يبتسم بلا سبب أو مبرر وهو يستمع لصوت “الست” من مسجله القديم موديل الستينيات، لا يقصد دكانه غير زبائن قلائل أوقعهم حظهم العاثر في الحاجة لشراء سلعة غير شائعة لا تُباع إللا في دكانه..

حسنات كانت من أهم زبائنه، هو فقط من يقبل أن يأخذ منها الجنيه المعدني وهو مبتسم بشوش ويملأ كفها الصغير بقطع “الملبس”، مات الرجل فوق مقعده ولم يشعر به أحد غير الفتاة الباحثة عن مذاق الملبس..

وجدته مستندًا على جبينه بلا حراك، نادت عليه أكثر من عشر مرات وهى فَرِحة بحصولها على أول جنيهان معدنيان، انتظرت أن يرفع لها رأسه ويكشف لها عن إبتسامته دون جدوى، هزته بخوف وقلق ولم تجد غير جسد نحيل تام السكون والثبات، لم تفطن أنه جسد بلا روح حتى شعر بها أحدهم وحرّك العجوز وعلم بوفاته..

لا نساء حزينة مكلومة لتملأ جوف الميدان بالصراخ والعويل، فقط بكاء حسنات وهى تلتصق بحائط الحاتي المصنوع من الرخام الثمين، أول مرة ترى فيها جثة ميت صعدت روحه للسماء، كانت تظن قبل تلك اللحظة أن الأموات لهم وجوه مُفزعة وأعين مرتعبة جاحظة..

راقبت إلتفاف وتجمع الجيران حول جثمان العجوز الراحل، مُغمض الأعين وفمه يحمل بعض من إبتسامته المعهودة، عربة الإسعاف تصل وسط همهمات الواقفين وهم يرددون عبارات لا تخلو من لفظ الجلالة..

الحاتي يصيح بهم بإستعجال وهو يردد الشهادة أن يكرموا الميت بدفنه، وعيناه على زبائن المحل يخشى نفورهم ورحيلهم قبل طلب الكفتة والطرب، بعض العمال الصغار من محبين العجوز يزرفون الدمع شفقة وحزن على الرجل الطيب الميت على بعد عشرات الشوارع من منزله..

الموقف مثالي لشراء المناديل من فرشة حسنات.. لكن لا توجد حسنات، الصغيرة مرتعبة باكية خلف ضباب دخان شواء الكفتة، فقط شعورهم بالموت وجلاله جعلهم يضعون جنيهاتهم فوق فرشتها كلما سحب أحدهم علبة مناديل، لأول موة تتفوق على آمال وتبيع أكثر من نصف حصتها في بضع دقائق..

العربة تتحرك وهى تحمل العجوز بإبتسامته الأخيرة، والجلبة وضيق المكان وكثافة الواقفين يجعلوا إناء الملبس يترنح ويسقط فوق الرصيف، رحل العجوز والملبس يتناثر ويقفز فوق الرصيف وحسنات تتابع ببكاء وصمت وتنسى أنها منذ بداية الليلة كانت تبحث عن بضع من ملبس العجوز، فقط تاه صوت بكائها وسط عودة صوت معلق المباراة وعودة الصخب للميدان.

بقلم
أحمد عبد العزيز صالح

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى