أحمد سليمان
فتح عبد الحميد الطبيب الشهير صاحب الخمسين عاماً باب غرفته وكأنه لم يفتح هذا الباب منذ سنوات طويلة، فلم يكن ذاك الباب إلا فاصلاً بين حياتين مختلفتين تمام الاختلاف إحداهما مليئة بالإنجازات والنجاح والأخرى لا شئ فيها حتى اللون الأسود لم يعرف الطريق إليها، فلم يكن حتى من الممكن تعريف معنى الألوان في ذلك الجزء الشقي من الحياة.
نزل عبد الحميد درجات السلم في فيلته التي تقع في إحد أحياء القاهرة الراقية وهو لا يدري إلى أين سيذهب ولا يدرك ماذا يفعل إلا أن ألهامه ذهب به إلى غرفة مكتبه حيث ظل يفتش بين أوراقه عله يدرك الموقف الذي وجد نفسه فيه بعد أن استيقظ من نومه ناسياً أحداث حياته إلا القديم منها، وظل في مكتبه يحاول أن يستجمع أفكاره وهو شارد الذهن لا يتذكر إلا أحداثاً بعيدة كتخرجه من كلية الطب وزواجه دون أي رابط بين تلك الأحداث والزمن الحاضر.
مرت أكثر من ساعة قبل أن تنتبه مديحة لغياب زوجها عن فراشه لمدة طويلة واستيقاظه قبل الموعد المعتاد بأكثر من ساعتين فنزلت إلى مكتبه وقبل أن تصل أدركت أنه هناك بعد أن سمعت صوت تفتيش في الأوراق داخل المكتب فدخلت عليه ودار بينهما هذا الحوار:
مديحة: إيه مصحيك بدري يا دكتور وبتدور على إيه؟
عبد الحميد:مين.. مديحة!؟ هو أنتِ كبرتِ ليه فجأة؟
استغربت مديحة من إجابة زوجها إلا أنها لم تأخذ جوابه على محمل الجد وانصرفت عائدة إلى حجرتها، إلا أن خاطراً حل ببالها حرمها النوم فيما تبقى من ليلتها..
تذكرت مديحة بعض الأعراض التي ظهرت على عبد الحميد مؤخراً ومنها نسيانه بعض أسماء أقاربه وفقدانه لأشياء ثمينة بسبب وضعها في أماكن ثم نسيان تلك الأماكن وحدثت نفسها عن إصابته بذلك الداء اللعين الذي يصيب بعض كبار السن.
حاولت مديحة طمأنة نفسها بأن زوجها لم يبلغ إلا خمسين عاماً من عمره وهو سن لا يُصاب فيه الإنسان عادة بمرض الزهايمر إلا أنها عادت وتذكرت أنه بحكم وظيفتها كطبيبة نفسية قد اطلعت على أبحاث تؤكد احتمالية الإصابة بذلك القاتل للذاكرة قبل سن الخمسين.
فزعت مديحة مما جاء في بالها وعادت مسرعة إلى زوجها لتسأله عن بعض الأحداث القريبة مثل زواج ابنتهما الوحيدة منذ شهر إلا أنها فوجئت برد زوجها الذي لا يتذكر سوى أن ابنته لم تزل طفلة في الخامسة من عمرها.
أدركت مديحة أن هناك شبح مخيف قد ألم بذلك البيت الآن، ذلك الشبح الذي لا يمكن أن ينصرف قبل أن يقتل ذكريات الإنسان فربما حوله طفلاً.. وربما جعله مجنوناً.. ولكن المؤكد أنه لن يتركه إلا تحت طبقات الثرى.
حاولت مديحة إثناء زوجها عن التفتيش في أوراق مكتبه التي كانت تعرف أنها لن تصل به إلى أي شئ إلا أن محاولاتها لم تكن لتكلل بالنجاح فكيف يمكن إثناء إنسان يحاول البحث عن ذاته وإن كان يعرف أنه يبحث عن سراب.
تركت مديحة زوجها في مكتبه وحل عليها الصمت وهي تمشي في الفيلا هائمة لا تدري ماذا تفعل.. وكيف تخبر ابنتها وأقاربها عن حقيقة مرض زوجها.. وماذا عساها أن تفعل لتحسن من حالة زوجها، وفكرت أتكون جاحدة إن تمنت موت شريك عمرها بعد ما أصابه.. أم أن الرحيل سيكون راحة من عذاب يبدأ خطواته الأولى.
وظلت على حالها هائمة عاجزة لا تدري ماذا تفعل وكأن ذلك القاتل اللعين للذكريات لم يكتف بإصابة زوجها إلا أنه قتل بكل براعة كل شئ جميل في ذلك البيت الهادئ بلا هوادة، وكأن الشئ الوحيد الذي سيبقى هو الذكريات القديمة التي لن يقدر هذا الداء على القضاء عليها من ذاكرة الطبيب المريض ولن يمنع تلك الزوجة الوفية من التصبر بها لتحمل ما أصاب الزوج من مرض ربما كان أشد فتكاً من السرطان.
نبذة عن الكاتب
أحمد سليمان
أحد الكتاب الشباب لمنصة كلمتنا
محرر صحفي تخرج في كلية الإعلام جامعة القاهرة
صدرت له 4 كتب
منهم ديوانا شعر باللغة العربية “بلاء عينيك أطلال”
مجموعتين قصصيتين “مواسم الموت وعيادة فقدان الذاكرة”
للتواصل :