تقارير متنوعة

لماذا اندثرت الصالونات الثقافية؟.. كلمتنا ترصد الأسباب

إذا عُدنا بالزمن إلى سنوات طويلة وربما قرون أيضًا، إلى تلك الحقبة التي شكلت تاريخ الأدب العربي وأحدثت نهضة غير معهودة في الثقافة والفكر والأدب، بما تحمله من أفكار وروايات وكتب كانت نتاج ما عرف بـ “الصالونات الثقافية” التي ترأسها واشتهر بها كبار الأدباء والمثقفين أمثال مي زيادة والرافعي والعقاد، تلك الصالونات الثقافية بنت عقولًا مثقلة بحب الأدب عبرت عما حملته القلوب آنذاك ورأته العيون، وتوراثت عبر الأجيال وحمل فكرتها عشاق الأدب عامًا تلو الآخر لما تحدثه من نهضة فكرية تكاد تؤثر على أجيال كاملة.

لكن بمرور السنوات وتغير الزمان هناك دوافع كانت أشد قوة وتأثيرًا من تلك الصالونات الثقافية والنهضة الفكرية والأدب، قوة هائلة رُغم افتراضيتها، جعلت الصالونات تندثر عامًا تلو الآخر حتى أصبحت نادرة الحدوث لا يقيمها إلا من زُرع حب الثقافة والأدب في فؤاده، فماذا حدث ولماذا اندثرت الصالونات الثقافية؟ في السطور التالية تأخذكم منصة “كلمتنا” في رحلة قصيرة حول تاريخ الصالونات الثقافية وما حدث وصولًا إلى هذه اللحظة.

هل الصالونات الثقافية أصلها عربي؟

لا يمكننا أن نبدأ حديثنا عن الصالونات الثقافية الأدبية متجاهلين الجيل الحالي الذي ربما لم يسمع هذه الكلمة من قبل، لذلك عزيزي القاريء الصالونات الثقافية هي عبارة عن حلقة نقاشية، كان يستضيف فيها شخصًا بارزًا ذو فكر أدبي وثقافي لامع، مجموعة من الناس من أجل تبادل الآراء والخبرات والمعارف وكذلك الحوارات، الأمر الذي يعلو من شأن القراءة والأدب والفن باعتبارهم أساس النهضة المجتمعية والفكرية آنذاك.

لكن إذا عُدنا إلى القصة وراء ظهور الصالونات الثقافية لأول مرة، فسنجد أنفسنا في إيطاليا بلد الفنون والأدب والثقافة، فمع بداية فترة النهضة في إيطاليا، بالتحديد في القرن الـ 16، ظهرت أماكن تتبنى الحركة الفنية وكذلك الأدبية، وذلك على أيدي أناس من الطبقة الأرستقراطية، وعلى الرغم من اتهام البعض المرأة بالجهل، إلا أن النساء وقتئذ كانت تهتم بالأدب والفنون أكثر من الرجال.

مع مرور الوقت بدأت كلمة صالون “salon” تظهر شيئًا فشيء، والتي كانت تعني آنذاك “غرفة الاستقبال”، ومن ثم بدأت فكرة الصالونات تلقى اهتمامًا كبيرًا في أنحاء إيطاليا حتى وصلت إلى فرنسا بالتحديد في القرن الـ 17، وعُرفت آنذاك باسم “ruelle”، حيث تجمع الأرستقراطيين بعدد من الأدباء والمثقفين والمفكرين، لتبادل الآراء والأفكار، وإذا بحثنا قليلًا في التاريخ فستخبرنا بعض الوثائق الفرنسية أن “فندق رومبيو” هو أقدم صالون أدبي شهدته فرنسا، وهو قريب من قصر اللوفر في باريس عاصمة الجمال.

نهضة فكرية:

مرت سنوات طويلة حتى وصلت الصالونات الثقافية إلى العالم العربي، فقد بدأ الأمر بظهورها في شكل مجالس ثقافية أدبية حتى وصلت إلى القاهرة، التي اعتبرت هي الأبرز والأشهر في انتشار الصالونات الثقافية، حتى أصبحت حديث جميع الأوساط الأدبية، الأمر الذي أحدث نهضة فكرية كبيرة في مجال الأدب والفن والثقافة على مدى عصور طويلة، مازلت توابعها حاضرة حتى هذه اللحظة.

شهدت مصر حقبة أدبية غير معهودة، بداية بالصالون الثقافي للأديبة والكاتبة “مي زيادة”، الذي كان يقام كل ثلاثاء لمدة 20 عامًا، وبعدما حاز الأمر على شهرة واسعة، فقدمت لها جريدة الأهرام طابقًا لتقيم فيه صالونها الثقافي بحضور نخبة رائعة من المفكرين والمبدعين والأدباء، مثل عباس العقاد ومصطفى الرافعي وأحمد شوقي، وأطلق عليه الأديب طه حسين “الصالون الديمقراطي”.

ترك هذا الصالون الثقافي بصمة فريدة في مجال الأدب والثقافة، وكان السبب وراء دفع عددًا من الشباب الموهوبين في تقديم أعمالًا فكرية وأدبية رائعة ما زال صداها يتردد حتى هذه اللحظة، فبسبب صالون العقاد الذي كان كان يقام في منزله في حي مصر الجديدة، وكان حديث جميع الأوساط الثقافية، استطاع أنيس منصور أن تخطو أنامله الكتاب الأكثر شهرة له “في صالون العقاد كانت لنا أيام”.

هل الصالونات الثقافية أحدثت نهضة نسوية؟

لا يمكننا الحديث عن الصالونات الثقافية، دون ذكر أول صالون أدبي حديث، الذي كان يقام في قصر الأميرة “نازلي فاضل”، وكان يجمع نُخبة من المثقفين من مصر والوطن العربي وأوروبا تحت مظلة الأدب والفن والفكر، ومن بين أولئك الأفاضل الإمام محمد عبده، ومحمد المويلحي فضلًا عن حضور سعد زغلول، كذلك الحضور الفارق والمميز لقاسم أمين الذي كان هذا الصالون هو السبب وراء تغيير وجهة نظره عن المرأة ورؤيته لها.

فبفضل الأحاديث والآراء والحوارات التي كانت تدار في صالون الأميرة نازلي، وأيضًا بسبب فكر ورقي هذه المرأة التي كانت مثالًا نسويًا عظيمًا يُحتذى به، أصبح قاسم أمين يدافع باستماتة عن المرأة وينادي من أجل حريتها، فأحدث نقلة نسوية في تاريخ مصر، لكن على الرغم من تلك النهضة الفكرية العظيمة التي أحدثتها الصالونات الثقافية على مدار سنوات طويلة، إلا أننا يمكننا وللأسف القول أنها اندثرت إلى حد كبير، ولكن كيف حدث ذلك؟

لماذا اندثرت الصالونات الثقافية؟

مثلما شهدت السنوات الماضية الطويلة نهضة فكرية وأدبية بسبب الصالونات الثقافية، شهد القرن الـ 21 نهضة قوية من نوع آخر، حيث أحدثت التكنولوجيا والتطور والرقمي الهائل الذي يشهده العالم، نقلة كبيرة لها جانبها السلبي أيضًا، فاحتكرت تلك التكنولوجيا عقول الشباب بشكل مخيف، فهجرت الصالونات الثقافية واندثر حب القراءة والمعرفة والشغف الثقافي والفكري، وأصبح هوس الشباب هي التكنولوجيا الحديثة، لذلك يمكننا أن نرى بكل وضوح الفجوة الفكرية والثقافية بين الجيلين.

فبسبب التجمعات الافتراضية التي انجرف ورائها الشباب، اندثرت تلك الواقعية التي من شأنها أن تُبني أجيالًا وتعيد توجيه وتشكيل العقول نحو الثراء الذي يقدمه الأدب والفن، وللأسف عددًا هائلًا من الشباب يكاد يجهل ما تعنيه الصالونات الثقافية وما قدمته وأحدثته من نهضة إنسانية فكرية ورفع مكانة وشأن القراءة على مدار سنوات طويلة.

لذلك فلابد من إعادة إحياء هذا الفكر العظيم، وإعادة تنظيم وتشكيل صالونات ثقافية يدريها كبار الآدباء والمفكرين والمثقفين، من أجل إنقاذ فكر الشباب الذي يتدهور بمرور الوقت، وإثراء عقله بآراء وتجارب وحوارات تنتشله من قاع المحيط إلى الأدب والثقافة والفن والرقي من أجل مستقبل يديره شباب واعي يحمل أهدافًا فارقة تبني مجتمعات وحضارات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى