“لا تخافي الحب يا رفيقة قلبي، علينا أن نستسلم إليه رغم ما فيه من الألم والحنين والوحشة، ورغم ما فيه من الالتباس والحيرة”. إحدى رسائل جبران إلى مي زيادة.
منذ طفولتنا وحتى نشيب نسمع دومًا عن قصص حب أفلاطونية، تأخذ قلبك نحو عالم آخر ومشاعر فياضة نقية تتمنى أن تشعر بها يومًا، قصص خالدة حتى وإن رحل أبطالها عن عالمنا، لكن ذلك الحب كان أكبر من أن تمحيه سنوات وربما عصور طويلة، ولكن هل يمكن أن يجمع الحب الأبدي قلبين دون لقاء؟
في حياة الأدباء حيث الكتابة والرسائل والشعر كل شيء جائز، فبطلة حكايتنا هي الأديبة “مي زيادة”، وفي ذكرى وفاتها دعوني أخبركم أنها المرأة التي أحبها الرجال لكن قلبها تعلق بآخر أحبته من صميم قلبها دون لقاء، حتى رحلت دون أن تتوج حكايتهم بالزواج، فكانت مي زيادة تتربع في قلب عباس العقاد، والأديب طه حسين وكذلك أحمد شوقي، وأحمد حسن الزيات، ولكن روحها ودون إرادة أحبت “جبران خليل جبران”.
رسائل عبرت القارات
“أنتِ يا مي كنز من كنوز الحياة، بل وأكثر من ذلك، أنتِ أنتِ، وإني أحمد الله لأنك من أمة أنا من أبنائها ولأنك عائشة في زمن أعيش فيه، كلما تخيلتك عائشة في القرن الماضي أو في القرن الآتي رفعت يدي وخفقت بها الهوا، كمن يريد أن يزيل غيمة من الدخان من أمام وجهه، يا مي، يا ماري، يا صديقتي”. إحدى رسائل جبران لمي زيادة.
اشتهر كلًا من مي زيادة والشاعر اللبناني جبران خليل جبران برسائل حب متبادلة، كان كلًا منهما يعبر عما يحمله فؤاده بالطريقة التي يهواها وهي “الرسائل”، التي كانت أعظم ما يدل عن الحب آنذاك، ولكن رغم ذلك لم يلتقيا الثنائي، فجبران خليل جبران كان يعيش آنذاك في نيويورك، لكن مشاعرهما كانت حديث الأدب رغم المسافات.
ذات يوم في عام 1912 أرسلت مي زيادة رسالة لجبران تعبر فيها عن إعجابها المفرط بكتاباته، فأجاب بدوره على رسالتها، ومن ثم أرسل إليها روايته “الأجنحة المتكسرة”، ولكن مي زيادة قررت عبر تلك الرسائل أن تخبره أنها تتعارض مع أرائه في الأمور وفيما يخص الزواج بالتحديد، وهو الأمر الذي جعل الرسائل تستمر بين الثنائي لمدة 19 عاما ولم يلتقيا خلال تلك السنوات الطويلة أبدًا.
اقرأ أيضًا: جبران خليل جبران.. طفولة الشاعر البائس وقصة الحب العذري
صداقة ثم حب أفلاطوني
في عام 1921 قررت مي زيادة أن ترسل صورتها إلى جبران خليل جبران، الذي رسمها بدوره بالفحم ثم أرسلها إليها، وهو الأمر الذي جعل هذه العلاقة تتحول من مجرد إعجاب كل منهما بأعمال وكتابات الآخر إلى صداقة حميمة ومن ثم عندما تجاوزت مي زيادة الثلاثين عامًا، قررت الاعتراف لجبران بمشاعرها إليه ورغبتها بالزواج منه، وهو الأمر الذي لم يحدث ولكن دام هذا الحب 20 عامًا خلدته رسائل الثنائي حتى بعد رحيلهما.
“ما معنى هذا الذي أكتبه؟ لا أعرف ما أعنيه به، لكني أعلم أنك حبيبي وأخاف من الحب، أتوقع الحب كثيرًا وأخشى أنه لن يجلب لي كل ما أنتظره، أقول هذا وأنا أعلم أن في القليل هناك الكثير من الحب، لكن القليل من الحب لا يرضيني، الجفاف والجفاف ولا شيء أفضل من القليل”. إحدى رسائل مي زيادة لجبران.
الأديبة مي زيادة
مي زيادة هي واحدة من أهم وأعظم شعراء وأدباء العصر الحديث، تلك المرأة الفلسطينية اللبنانية أصبحت من البارزين في الأدب النسوي وذلك بالتحديد في القرن العشرين، ولكن اسمها الحقيقي هو “ماري إلياس”، انتقلت إلى مصر وعاشت فيها بعد أن عُين والدها محرِّرًا في جريدة المحروسة.
اشتهرت بإجادتها للغات عدة، كما أنها كانت شاهدة على عصر النهضة الثقافية وكذلك الحضارية في القاهرة، وهو الأمر الذي جعلها تعقد ندوة أسبوعية عرفت باسم “ندوة الثلاثاء”، كان يحضرها آنذاك عددًا كبيرًا من أشهر الأدباء والنقاد والشعراء في تلك الفترة.
لعل أبرز الحاضرين هم: عباس العقاد، والأديب طه حسين، وكذلك أحمد لطفي السيد، ومصطفى صادق الرافعي، فضلًا عن حضور أحمد شوقي وغيرهم، ونشرت مي زيادة عددًا كبيرًا من الكتب، وقامت بترجمة ثلاث روايات من أعمالها، فضلًا عن نشر مقالات وأبحاث في أكبر الصحف والمجلات آنذاك.
فراق الروح
على الرغم من النجاحات التي حققتها مي وزيادة والحب الذي كان حديث الأدب والسعادة التي كانت تغمرها، إلا أنها عاشت آخر 12 عامًا من رحلتها في الحياة في مأساة موجعة، فقد فقدت والدها ومن ثم حبيبها جبران خليل جبران، حتى رحلت والدتها ليدمى قلبها من شدة الحزن والألم على رحيل من كانت تراهم عالمها.
أمضت الأديبة مي زيادة بعض الأوقات في مستشفى للأمراض النفسية من أجل تخطي ذلك الحزن الذي اجتاح قلبها أو ربما لتقبله قليلًا، ثم بعد خروجها أقامت مي زيادة عند الأديب أمين الريحاني ثم عادت بعد ذلك إلى مصر، لترحل عن عالمنا في 17 أكتوبر عام 1941، تاركة خلفها إرثًا أدبيًا عظيمًا، وقصة حب ما زالت خالدة حتى هذه اللحظة.
اقرأ أيضًا: مي زيادة.. دافعت عن كرامة المرأة وانتهت مسيرتها في مصح نفسي