كاتب ومقال

دار في خاطري| بدايتي أم نهايتي؟!

كتبت: ريم السباعي

إنها العاصفة التي اجتاحت البلاد تضرب بكل ما أوتيَت من قوة المباني والأشجار، رياح هوجاء تصدر صفيرا تقشعر منه الأبدان، وسحاب متصارع متصادم يصدر هزيما تصم منه الآذان، والسماء تبكي بحرقة، أتراها من هول ما يحدث؟! أم تراكمت عليها الأحزان؟!

إن هذه العاصفة التي تكشر عن أنيابها في الخارج ما هي إلا صورة مصغرة لعاصفة أشد وأعنف قد اجتاحت نفسي، عاصفة تعتصر قلبي، وتمزق روحي، لذا فقررت أن أسطر كلماتي هذه بمداد قلمي، ودموع مقلتَي اللتين تورمتا من كثرة البكاء، بكاءً يشبه بكاء السماء، سأسطر كلماتي لعلها تهدأ العاصفة، أو يجدها أحدهم في يوم من الأيام، فيأخذ منها العبرة عندما يقرر أن يبني، أو قبل أن يهدم.

“يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ ”

لقد استقرت نفسي على أن استهل أسطري بكلام الله عز وجل، وذلك بعد أن فشلت في إيجاد الاستهلال المعبر عن ما بداخلي، لماذا شرع الله عز وجل الطلاق؟! ولماذا أجاز الزواج بعد الطلاق؟! ألإنهاء المشاكل بين الزوجين؟! أم لحفظ النفس من الوقع في المحرمات؟! وما هي هذه المحرمات؟! أهي القتل أو الزنا مثلا؟! وكيف استطاع الإنسان الشرير أن يجعل من شيء منحه الله له لييسر به أموره نافذة مفتوحة لخلق مشكلات جديدة لا تقل خطورة عن سابقتها التي كانت حال استمر الزواج؟! ولماذا لم يتقوا الله في أولادهم بعد الطلاق؟! بل لماذا لم يتقوا الله في أنفسهم أولا؟!

أسئلة لا نهاية لها تتزاحم بخاطري، أفكارا مشوشة تحيط بعقلي وكأنها سحابة من غبار، أو دخان رمادي يحجب الرؤية فلا ترى إلا أشباحا لأناس طمست ملامحهم فأصبحوا خيال أجساد يشبه بعضها البعض، أجل! إنه حالي الآن وأنا أتذكر السنين الغابرة التي قُيِدْت بها على وجه الحياة، ولكن أي حياة هذه التي أتحدث عنها؟! إنها تمزق، وتفكك، وضياع، حياة على حافة الهاوية، هاوية دركها الأسفل يستعر نارا لن تنطفئ أبدا.

فأنا شاب بلغت من العمر ربع قرن وعقد من الزمان وعام، ومنذ تفتح برعمي وأنا أسمع وأرى شجاراً دائماً سرمدياً بين أبي وأمي، لم أعي وقتئذ أسباب ذلك الشجار، ومتى سينتهي، ومتى سيبدأ الشجار الجديد، ولكنني فيما بعد علمت أن الشجار ينشب حول أهون الأسباب وأبسطها، فربما كلمة أو فعل يشعل فتيل الحرب بينهما، وعلمت أيضا أن الأوقات القليلة التي تمر دون شجار ما هي إلا هدنة قصيرة ليلتقط كل منهما أنفاسه كي يستطيع يواصل الحرب التي لا غالب فيها، بل كلا الطرفين مغلوب، بالإضافة إلى المغلوب الأكبر وهو أنا، ومن بعدي شقيقتي “وردة” التي أتت إلى ساحة القتال سبية حين أتممت سنيناً بعدد أصابع اليد الواحدة.

كانت “وردة” اسم على مسمى فقد كانت وردة يانعة، تتفتح كل يوم رغم تلك التربة الفاسدة، والهواء المسمم، كانت فتاة جميلة ذات عيون بنية، وشعر أسود ناعم، وابتسامة طفولية بريئة ورقيقة، فأصبحت بالنسبة لي هي المتنفس الوحيد في هذا الكون المعتم الموصد الأبواب، ولكنني لم أكن أعلم وقتئذ وحتى هذه اللحظة ماذا أعني لها.

عندما أتممت عقدي الأول قررا والدي إنهاء حالة الحرب دون إعلان السلام، وذلك بأن ينسحب كل منهما من ساحة القتال، وتنفيذ البنود المتفق عليها وهي: الطلاق والذي كان في تلك المرة طلاقا لا رجعة فيه، فقد كانت تلك المرة الثالثة التي يتم فيها الطلاق، وأن أعيش أنا مع أبي، بينما تعيش شقيقتي مع أمي، وكان الاتفاق لأول مرة، وتم التنفيذ.

أجل! إن هذا الاتفاق هو الاتفاق الأول الذي أشهده، فلقد اتفقا على الهدم لا البناء، على التفكك لا الترابط، فلقد نظر كل منهما إلى غايته دون أي أدنى اعتبار لي ولأختي، لقد فرقا بيننا، وهُدِمَت تلك الصلة القوية التي تربطنا، نعم! إنها الحقيقة دون أدنى مغالاه.

لقد رحلت أمي وأختي من البيت، ولم أعرف لهما عنوان، وكلما سألت أبي غضب مني، وراح يخبرني بأن أمي هي التي تركتني، ولم ترغب في وجودي معها، وإنها تحب أختي أكثر مني لذا فهي معها الآن، ولكنني لم أصدق كلمة واحدة من هذه الكلمات، لأنني سمعت بنفسي الاتفاق المبرم بينهما، وسمعت توسلات أمي لأبي بأن يتركني أذهب معها، ولكنه كان يرفض بشدة.

استسلمت للوضع الجديد وأنا آمل بأن تأتي أمي وأختي مرة أخرى، ولكن أبي سرعان ما تزوج وانتقلنا إلى بيت جديد، وفي غضون ثلاث سنوات كانت زوجة أبي قد أنجبت ولدا وبنتا.

لم يكن العيش هنيئا في البيت الجديد، فقد كان أبي دائم الشجار مع زوجته، وإن كان هذا الشجار ليس عنيفا كما كان يحدث مع أمي، لكنه كان موجعا دائما، أما أخوتي، فلم أكن على وفاق معهما، فلقد كانا يكرهانني، ودائما ما يبتعدان عني، لقد عشت حياة رتيبة مملة، أدرس وأنتقل من عام دراسي إلى آخر دون أي تخطيط للمستقبل، فلم أكن أرى المستقبل إلا ظلام حالك، وطريق مسدود.

تخرجت من الجامعة، وعملت معلما للغة الإنجليزية، وبدأت أشعر بأن زوجة أبي تريد إبعادي من البيت بأي طريقة، حتى جاء يوما حدثني فيه أبي عن رغبته في أن أمتلك بيتا أعيش فيه بمفردي، أو أن أتزوج من تلك الفتاة الثرية التي عرضتها عليّ زوجته.

وهنا شعرت بكره شديد للبيت، ولكل مكان يذكرني بحياتي الماضية أو الحاضرة، فقررت الرحيل إلى أي بلد آخر يكون لي فيه بداية جديدة، فوقع الاختيار على الولايات المتحدة الأمريكية.

وبالفعل سافرت إلى هناك، فشعرت ولأول مرة ببصيص نور يضيء دربي ويرسم طيفا لمستقبلي، وقد ازداد ذلك النور بعدما تعرفت على “روز”.

فتاة شقراء، ذات شعر ذهبي ناعم، وعينين زرقاوين، وابتسامة رقيقة ساحرة، تأخذني إلى عالم مزهر ومبهج، لقد التقيت بها في إحدى المطاعم بولاية كاليفورنيا التي وقع اختياري عليها للعيش والعمل بها.

استمرت لقاءاتي بروز حتى أصبحت لا استطيع الاستغناء عنها، فأحببتها، وكذلك هي أحبتني، فشعرت بأن هذه هي بدايتي الحقيقية، فلقد ولدت هنا، وبدأت أحلم وأتخيل المستقبل الزاهي وأخطط له، وكانت روز تشجعني دائما على المضي قدما نحو الأفضل حتى تبدل كل شيء بحياتي إلى سعادة ظننتها سرمدية حتى جاء يوم انقلب فيه كل شيء رأسا على عقب.

مرت خمس سنوات بكاليفورنيا، أعمل واجتهد وبجانبي داعمي الأكبر “روز” حتى استطعت تكوين ثروة لا بأس بها، فعندئذ قررت خطبة روز، فطلبت منها أن أقابل والدتها، فلقد علمت أنها فتاة مصرية هاجرت إلى كاليفورنيا بعد وفاة والدها، ولقد تزوجت أمها برجل مصري يعيش هنا وأنجبت ولدين، وأنها دائما على خلاف معهم، وإنهما ينويان مغادرة البيت حين يبلغ كل منهما السابعة عشر، ليستقل بحياته كما يفعل الشباب هنا، فذلك في رأيهما سر النجاح، أما زوج أمها فقد انفصل عنها بعد شجار عنيف لم ينفع بعده أي إصلاح، لقد أخبرتني بكل شيء عنها حتى أكون على دراية بحالها، أما أنا فلم أستطع إخبارها بأي شيء عني، فإنني لم أرغب في تذكر الماضي وقسوته، ولكنني أخبرتها بأن حالي لم يكن أفضل من حالها.

وأتى اليوم الذي حددته روز لكي أقابل أمها، فذهبت إلى هناك لأجد المفاجأة التي لم تخطر لي يوما على بال، لقد كانت أمها امرأة في الستين من عمرها، ذات شعر كلله الشيب، وعينان حادتان تظهران قوة وألم، ولكنني استشعرت فيهما العطف والحنان، لقد عرفت هاتين العينين، لقد اشتقت إليهما كثيرا، لقد كانت تلك العينين لأمي.

أجل! إن تلك الفتاة التي أحببتها وذهبت لخطبتها هي شقيقتي وردة، لم أعرفها، كما أنها أيضا لم تعرفني، فلقد شعرت بأن قواي تخور، فلم أعد احتمل المزيد، فشعرت بأن تلك الأيام لم تكن بدايتي، بل نهايتي، نعم! إنها النهاية التي حلت دون بداية، ماذا أفعل؟! وماذا أقول لوردة؟!

أيجب عليّ أن أسعد أم أحزن؟! بالتأكيد أسعد لأنني وجدت أمي وشقيقتي، ولكن تلك السعادة لن تمحو الحزن الدفين بداخلي، لن تمحو آثار التفكك، والفراق، والضياع، من المسئول؟! أبي؟! أم أمي؟! أم تلك الأحوال القاسية التي نلقي عليها مسئوليتنا التي على أكتافنا؟!
زواج وطلاق، فهذا أسهل شيء يحدث في هذا الكون دون النظر إلى المستقبل، إلى مصير الأبناء الهدف الأسمى من الزواج، طلاق دون وعي ودراية بما سوف يحدثه من تمزق، دون فهم لماذا جعله الله أبغض الحلال، ولما لا وقد تم الزواج أيضا دون وعي ودراية بما سوف تحدثه الخلافات، دون فهم لماذا جعله الله ميثاقا غليظا، والنتيجة الآن أسر مفككة لن يتجمع شملها أبدا، لأن في أي محاولة لإصلاح واحدة، حُكِمَ على الباقين بالتمزق والتفكك، وجرم كدت أقع فيه، بسبب العناد والاضطهاد، فلتفكر جيدا يا من اختارك القدر لتقرأ أسطري قبل الإقدام على الزواج أو الطلاق، فقط خمس دقائق فكر في مستقبل أولادك وعندها كن على يقين بأن التغيير الذي طرأ عليك هو الأفضل والصواب.

نبذة عن الكاتبة

ريم السباعي

أحد الكتاب الشباب لمنصة كلمتنا

حاصلة على ليسانس آداب في التاريخ من جامعة عين شمس عام 2005

صدر لها مجموعة قصصية بعنوان: رحالة في جزر العجائب

صدر لها رواية بعنوان: ويعود ليلقاها

للتواصل:

[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى