• الثقافة والخطاب الثقافي
يبدو العنوان دائما قابلا لعدد كبير من التأويلات، ليس بسبب غموض التركيب، ولا حتى تعقيده، لكن بسبب من عدم وضوح التحديدات الدلالية للمصطلحات، وأحسب أن ذلك عيبا مهما في خطابنا الثقافي، حيث تبدو الألفاظ أكثر عمومية دائما عما يجب أن تكون عليه.
ربما يخضع تعريف الثقافة بالذات لرؤية أكثر تشويشا، حيث لا تبدو التعريفات كلها، سواء العربية أو الأجنبية، محددة ذلك التحديد الذي يمكن عن طريقه بناء فرضيات علمية، ناهيك عن اختبارها.
فالثقافة – في تعريف عالم الأنثروبولوجيا إدوارد تايلور- هي الكل المركب الذي يتضمن المعرفة والإيمان والفن والأخلاق والقانون والأعراف وأية قدرات يكتسبها الإنسان بوصفه عضوا في الجماعة (الثقافة البدائية – إدوارد بوث تايلور – 1871)، وهو التعريف الأكثر شيوعا الذي قام عليه بشكل واضح تعريف اليونسكو للثقافة عام 1981.
وعلى الرغم من عمومية التعريف، فإنه لا يستطيع تقديم تعريف واضح ينبني عليه لمفهوم المثقف، إلا بمقدار ما يكون نتاجا لهذه العناصر جميعها، وهو ما يجعلنا نقر حسب هذه الرؤية الاجتماعية بأن كل فرد موجود في مجتمع ومتفاعل معه هو بالضرورة مثقف، الأمر الذي يجعل من الضروري التقدم نحو سمة مضافة لتعريف المثقف، لنكون أمام المثقف العضوي، المنتمي لجماعة والمعبر عنها أيديولوجيا (حسب جرامشي)، أو حتى ما نجده في حديث إدوار سعيد عن المثقف الهاوي، أو المتعلم، أو المفكر، في حديثه عن النخبة المنتجة للثقافة بصورة ما، حيث المثقف هو من لديه أفكار يعبر عنها لغيره – أي الجمهور – في محاضرة أو حديث أو مقال أو كتاب، مع تمسكه بقيم عليا مثل الحرية والعدالة له ولغيره، مع عدم قبوله للحلول الوسط فيما يتعلق بهذه القيم (إدوارد سعيد- المثقف والسلطة – ترجمة محمد عناني – دار رؤية – القاهرة – 2006).
وحتى لا تستغرقنا التعريفات، يجب أن نفرق بين ممارسة الثقافة وإنتاجها، حيث يكون ذلك الأخير من صنع نخبة هي التي تقوم بتشكيل أدبيات الخطاب الثقافي، أو – بصورة ما – تعيد إنتاج الثقافة في صورة لغوية تعد هي التجلي اللغوي للثقافة، وحيث يشكل الخطاب الثقافي جوهر الإطار الثقافي، وروح الثقافة، في حمل عناصرها وآلياتها من فرد إلى آخر سواء تم ذلك عبر اللغة (بوصفها الحامل الأهم) أو عبر آليات أخرى بصرية أو فنية مثلا.
• ما الذي يتغير في العالم؟
عندما نتحدث عن عالم متغير فإن ذلك ينمي شعورا ما لدينا بأن العالم قد بدأ يتغير الآن، أو على أقل تقدير، فإن الإحساس بتغير العالم قد بات أشد وطأة، خاصة عندما نراقب هذا التغير من موقع خارجه. وعندما يكون التغير لدينا يحدث بسرعة أقل مما يحدث في العالم، عندها يكون الإحساس البسيط لدينا بأن (العالم يتغير) فهو يتحرك ونحن ثابتون نسبيا، وفي الحقيقة فإن العالم قد شهد مجموعة من التطورات في القرون، بل العقود، الأخيرة تعد جوهرية بما يجعل مراقب التاريخ يشعر بقفزة في ذلك الصدد لا مجرد تغيرات.
فمن الثورة الزراعية إلى الثورة الصناعية، وصولا إلى ثورة الاتصالات والمعلومات، يكون كل من هذه التغيرات قفزات في النسق المعرفي، أثرت بشدة في وعي العالم بنفسه، وطالت جوانب الحياة كلها، خاصة مع ضيق الفجوات الزمنية بين كل منها بصورة المتوالية الهندسية، حيث يتوازى ذلك مع التغير من التحولات الإقليمية المحدودة إلى التحولات الكوكبية المتأثرة بالعولمة وثورة الاتصالات والمعلومات الحديثة (تركي الحمد – الثقافة العربية في عصر العولمة – دار الساقي – 2007)، وهو ما أثر بشدة في نمط التحول من الدولة الأمة، إلى الدولة القومية، ثم إلى شكل جديد من أشكال السلطة المعتمدة على نمط الشركات متعددة الجنسيات، وصولا إلى الشركات التي لا يمكن تحديد جنسيتها، والتي لا يوجد لها مركز واضح، مع أخطبوطيتها التي تجعلها أكثر أثرا ربما من دول كبرى، حيث يصبح العالم كيانا اقتصاديا واحدا، يتم التعامل فيه مع مواطن عالمي مع محاولة تشكيل شخصيته (ثقافته واحتياجاته وربما أحلامه) بما يتواءم مع حدود هذا الكيان، في نوع من أنواع توحيد النمط.
• لماذا يجب علينا مواجهة التغير؟
وهنا سيكون علينا مواجهة ثقافة عالمية جديدة آخذة في التشكل، قد نستطيع وصفها بأنها سطحية أو استهلاكية، ويمكن لنا التعامل معها بأنها غزو ثقافي (لا نعرف بالضبط من هو الغازي) لكنها تلك الثقافة الموجودة الآخذة في الانتشار والنمو خارج الأنساق الثقافية التقليدية، وأدواتها آخذة في التطور والانتشار والنمو عبر وسائل التواصل الاجتماعي وصفحات وتطبيقات الإنترنت، وهي تنتشر على حساب ثقافات قومية، تحاول المقاومة بالرفض، لكن يبقى الرفض وحده غير كاف للمواجهة، ليكون علينا إذن الإجابة على السؤال: هل تجب علينا المواجهة؟ ثم كيف يمكن لهذه المواجهة أن تكون فعالة ومنجزة وإيجابية؟ وكيف يمكن لنا صناعة بديل لهذه الثقافة الجديدة يرتكز على هويتنا – أو هوياتنا – ليكون له الأثر الفعال في بقاء هذه الهوية مميزة؟ وما الهوية التي يمكنها فعل ذلك خاصة مع ملاحظة التراكمات التاريخية لهذه الهوية بما يجعلها حاملة لقيم إنسانية حاولت على مدار مراحل تطورها منح العالم شكله الإنساني الخاص بها؟
قد تكون تلك أسئلة إشكالية صعبة، لكنها فيما أظن صالحة لبداية مجموعة من النقاشات – ربما – تكون قادرة على خلق خطاب ثقافي قادر على البقاء والنمو والتطور في عالم يتغير بصورة يبدو أنها ستستمر في تسارعها.