كاتب ومقال

إبداعات كلمتنا| “جلباب قصير بصدر مفتوح”

أصبحت أعواد الذرة طويلة، أطول من قامة فادية بشبرين أو أكثر، أغصان الذرة مزعجة تجرح يديها وذراعيها، تكره تلك الأيام الخاصة بجمع كيزان الذرة، تعود بعدها مرهقة والجروح الحارقة تملأ يديها وذراعيها ووجها والظاهر من عنقها وتقضي ليلة عصيبة يجافها النوم والراحة..

المرور بين عيدان الذرة يُشعرها بوغز قاس ينفذ لروحها ويصيبها بهستريا صاخبة تدفعها نحو رغبة عارمة في الصراخ ونزع ملابسها، الصبي الصغير يصل راكبًا حمارهم العجوز وهو يحمل الوعاء المعتاد للخبز الجاف وقطعة الجبن البنية اللون وحبات الطماطم، صاح عليهم وهو متعجل في الرحيل والعودة لمواصلة اللعب مع اقرانه..

خرجت فادية من بين عيدان الذرة وهى تنفخ بضيق وتلطم العيدان بيدها بقوة وغضب، سعد زوجها مازال عالقًا تحت البّدال محاولًا اصلاحه لإكمال عملية ري القطعة المزروعة بالبرسيم، ألقت فادية بجسدها المنهك تحت شجرة الكافور وهى تنادي على سعد ليشاركها الطعام..

سعد ذو جسد مفرود وبنية قوية، أطول منها بنصف متر على الأقل، جلبابه المبتل ملتصق بجسده الملطخ بالطين، جلس بجوارها والطين ساكنًا تحت أظافره وساعده يحمل قدر لا بأس به من الطين أيضًا، خجلت أن تلفت نظره وتطلب منه غسل يديه، كلما فعلت ذلك، رد ضاحكًا متهكمًا وهو يؤكد على مسامعها أنهم من طين وله يعودون!

مرارة طعم الجبن الحادق، يداويه قطمة طماطم، لكن مرارة قلبها لم تجد لها حل أبدًا، بداخلها غصة وشعور دائم بالحزن، لو أنها سمعت كلام أمها وتزوجت من عواد ابن شيخ البلد لكانت حياتها أفضل وأنعم، وبلا شك كانت نجت من وغز وشوك أغصان عيدان الذرة..

عقل الصبية دفعها للقبول بسعد لوسامته وبشرته البيضاء اللون وشاربه الأصفر وعيناه الزرقاء، وسامته كانت كفة راجحه مقارنة بعواد صاحب البشرة الداكنة السمراء والملامح الغليظة، هناء زوجة عواد ترتدي غوايش عريضة حول ذراعيها يُسمع صهيلها على بُعد أمتار..

كانت بينهم معرفة وصداقة قديمة ورحلات مشتركة للترعة لغسل الآواني، بعد أن رفضت فادية الزواج من عواد وزواجه من هناء بدلًا منها، نبتت بينهم عداوة وغيرة، رغم أن لهناء قلب لم يحمل أبدًا ذرة حقد أو كراهية نحو أحد، إلا أن فادية بعد أن تم زواجها من سعد وتخلل شعور الندم لقلبها أصبحت تحمل كراهية كبيرة نحو صديقتها القديمة..

لم تفكر لحظة أن هناء لا ذنب لها في اختيار زوجها، اختارت الوسامة وبعد رؤية العز يتضح على صديقتها، تبدلت مشاعرها وانحاز عقلها نحو الندم، فادية الأجمل ببشرتها البيضاء ووجها المستدير وعينيها النجلاء الواسعة، زوجة الفلاح صاحب الأعين الزرقاء، استمرت في الذهاب لغسل الآواني في الترعة..

بينما زوجة ابن شيخ البلد امتلكت حظوة طرمبة ماء خاصة بحوش بيتهم الكبير ولم تعد بحاجة لحمل الآواني فوق رأسها ومشاركة باقي الفلاحات في جلسات الغسيل والنميمة، فقط بقى بينهم لقاءات عابرة تأتي بالمصادفة، هناء تقابلها بمودة سرعان ما تفتر من جفاء الواضحة في حديثها ونظراتها .

فادية ذكية، تعرف كيف تُخفي غيرتها وترسم فوق ملامحها ابتسامة عريضة صفراء وهى تتباهى بطفلها ذو البشرة ناصعة البياض، بينما ابن هناء ذو بشرة داكنة وشعر مجعد خشن وملامح متطابقة مع ملامح عواد، تربت على رأسه بعطف مصطنع وتنطق بكلمات ساخرة من ملامحه مغلفة بطريقة كاذبة تفهمها هناء وتشعر بالحزن ولشدة طيبتها لا تعرف طريقة مماثلة للرد..

كيد النساء لا يوجد بقلوب كل النساء، يهب سعد واقفًا بحماس وهو يخبرها أنه سيذهب للبحث عن عطية لإصلاح البدّال، درجة الحرارة متجاوزة الأربعين، والعرق يصيب خدوش ذراعيها وعنقها بحرقة لا تطاق، لا يوجد أحد على الإطلاق حولها..

منظر ذراعي هناء بالغوايش يضرب رأسها بعنف وغلظة ويزيد شعورها بلهيب خدوشها، تحت جلبابها الباهت اللون المتسخ، جلباب آخر قصير بصدر مفتوح بلا أذرع وبالكاد يصل لركبتيها، تلفت حولها مرة واثنان وثلاثة قبل أن تخلع جلبابها وتخطو نحو الترعة بجوار البدّال تبلل جسدها بالماء وتهدئ شعورها بالألم، ملمس الماء المنعش جعلها تزفر براحة وتخطو خطوتين وأربع حتى كاد الماء يصل لعنقها..

إلتصق جلبابها القصير بجسدها وإحتلت الإبتسامة ملامحها وهى تتخلص من ألم الوغز ويهدأ جلدها ويرتاح، سعادة مؤقتة نزعت من خيالها منظر ذراعي هناء وغوايشها، ترفع الماء بكفيها وتغمر رأسها به بعد أن تركت شعرها ينسدل حر طليق حول وجهها، الماء رغم شفافيته التامة، إلا أنه عتم عن رؤية هذا المتلصص القابع خلفها يحدق في جسدها المتجسد تحت جلبابها القصير..

أنفاسه متلاحقة منفعلة وهو يرى جمال فادية الخفي متاح بكل يسر أمام بصره، جرعة بهجة وسعادة وشعور بالراحة بعد الاستحمام بماء الترعة، خرجت من الماء وهى ممسكة بضفائرها تلف حول نفسها وتعصر منها الماء، خلف كوم الطين الجاف بجوار شجرة الكافور وقفت تجفف جسدها المبتل..

تشعر فجأة بقبضة قوية تكتم فمها وأحدهم يدفعها فوق كومة من البرسيم، صدمة وفزع عارم وتسميت في دفع جسد المعتدي المجهول بلا فائدة، جسده أعرض وأضخم وأقوى بكثير، ملابسها أصبحت محل صراع بين مقاومتها الفاشلة وتصميمه المستميت، جزء يرتفع فوق نصف ظهرها وجزء يسقط حتى ركبتيها وصرخاتها مازلت مكتومة لا تنفذ من قبضة المعتدي..

دقائق من الرفس الغير مفيد والدفع الحاد العنيف من مغتصبها وهى جاحظة الأعين لا ترى غير كومة البرسيم أمامها وغوايش هناء تلمع بحدة تحت أشعة الشمس الحارقة، ضربة قوية فوق رأسها بعد أن أنهى مغتصبها رغبته وكومة كبيرة من البرسيم فوق جسدها قبل أن يفر وتعاود الرفس بقوة وهلع وتنهض مفزوعة مرتعبة تعيد ملابسها لوضعها الأول وهى مصدومة..

تعدو يمينًا ويسارًا بجنون تبحث عن صاحب القبضة القوية دون جدوى.. “فص ملح وداب”، جلست تلطم وتنوح ببكاء حار وهى لا تصدق ما حدث، فقط في لمح البصر أتم مغتصبها فعلته ولم يمكنها حتى من معرفة من يكون، أخذت في ضرب بطنها بلا وعي وهى تنتبه وتدرك أن المجهول ترك أثر جريمته بداخلها..

الفوضى تحكم عقلها المفزوع، ماذا تفعل؟ تخبر سعد بما حدث أم تكتم أمر مصيبتها بداخلها، لن يصدقها أنها لم تستطع المقاومة والفرار، وإن صدقها، كيف ستخبره أنها فعلتها وتحممت في الترعة بدون حرص وفي غيابه، سيقتلها سعد أو على الأقل سيطلقها وتصبح بعدها قصة عار على ألسنة أهل البلد..

لا سبيل لها غير الصمت وكتمان سر فضيحتها بصدرها، اغتسلت بالماء مئة مرة بعد العودة للدار، الفزع متمكن منها أن تحمل من مغتصبها، أكلت وحدها قطعة كاملة من الجبن الحادق دون اي قطمة طماطم، سمعت كثيرًا من قبل أن الملح يقتل الأجنة ويجهض النساء..

البلد بها الكثير من الخرافات، ومن غير المفزوع يصدق تلك الخرافات ويطبقها، الملوحة الزائدة بفمها جعلتها تتقئ أكثر من مرة ومع ذلك ظلت طوال الليل تأكل قطعة تلو الأخرى وتغسل موطن عفتها بالملح، جسدها لم يتوقف لحظة عن الإرتجاف وبررت ذلك لسعد بأنه بسبب شعورها بالألم من وغز أغصان الذرة..

الأيام تمر بطيئة ثقيلة وهى في كل يوم من الصباح حتى الغروب لا تكف عن التجول المحموم وسط الأرض وحول الترعة تبحث عن المعتدي المجهول، تظن بسذاجتها أنه سيظهر يومًا أمهامها ويجثو على ركبتيه باكيًا معترفًا بجريمته ويثبت للجميع أنها شريفة وضحية ويطلب منهم القصاص العادل..

بعد أكثر من شهرين هاجمتها الرغبة في القئ، مصيبة فادية تصل لقمتها، جريمة المعتدي تأكدت ونفخت بطنها بجنين الخطيئة، فرح سعد بخبر الحمل وهو يظنه من صلبه، بينما فادية تقترب من حافة الجنون، لا تتوقف عن البحث عن المعتدي بالنهار، والبكاء والنحيب في جوف الليل..

صراخها عال ومرتفع وهى تحزق بعنف قبل أن تخرج من بطنها رأس المولود، على صدرها وإرتفع ولهثت أنفاسها حتى وتوقفت عن الصراخ بعد أن غادر المولود أحشائها، حملته الداية وهى تُكبر وتضعه بجوارها وعلى وجهها ملامح الدهشة، طفل ذو بشرة داكنة شديدة السمرة، بلون الطين تحت أظافر سعد..

بُهتت فادية فور رؤيته وتجمد بصرها من الحسرة والفزع، المولود شديد السمرة بلون الخطيئة، داكن البشرة أكثر من ابن هناء وحتى من عواد نفسه، قضبت الداية حاجبيها وهى تحرك شفتيها المضموتين يمينًا ويسارًا وتتمتم بصوت مسموع لفادية، الولا شكله طالع لجده.. اومال ما العرق يمد لسابع جد.

بقلم
أحمد عبد العزيز صالح

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى