قال الجاحظ، كما أورد الأبشيهي في كتاب “المستطرف في كل فن مستظرف: “كان النفر في زمن البرامكة إذا سافر أحدهم أخذ معه من تربة أرضه في جراب يتداوى به، وما أحسن ما قال بعضهم:
“بلاد ألفناها على كلّ حالة.. وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن.
ونستعذب الأرض التي لا هوا بها.. ولا ماؤها عذب ولكنّها وطن”
لعل هذا البيت وغيره لم يبرح مخيلة طبيبة سوهاج وهي واجمة وأحد المسؤولين يأمرها بلهجة محتدة: “حولها للتحقيق.. علقي محاليل للمريض”.. عبارة لا تختلف كثيرا عن جملة الأسباب التي جعلت صداع هجرة الأطباء لا يكاد يتوقف، فبعد رحلة مضنية من التعليم، على مدى أكثر من 18 عامًا، نجدنا أمام مشكلة جاثمة على صدورنا جميعا، فهذا الطبيب الذي قرر أن يشق طريقه في بلاد الله لا يمكن تعويضه بسهولة، رغم وفرة الموارد البشرية لدينا، ولكن من يستطيع أن يعيد الكَرَّة مجددا.
الأدهى، ما رصدته سجلات نقابة الأطباء، حيث أوضحت في تقارير صحفية أنه في عام عام 2022؛ بلغ عدد الأطبّاء المقيّدين بسجلّات النقابة نحو380 ألف طبيب، منهم 125 ألف طبيب فقط يعملون في الحكومة، والباقي تقدم باستقالة ليعمل طبيبا حرا، أو سافر إلى الخارج. وفي عام 2023 أفادت بيانات النقابة أنّ نحو 120 ألف طبيب مصريّ مسجّل لديها يعملون بالخارج؛ ما يشكّل نحو 67% من إجماليّ الأطبّاء، وهو الأمر الذي سيقودنا إلى أزمة كبرى في القطاع الصحي، في غضون سنوات قليلة، بحسب الأرقام نفسها.
إن الضوء الأحمر في آخر النفق يحذر الجميع أن تعود ثقافة احترام الطبيب مجددا إلى أعمالنا التليفزيونية والدرامية، وألا يكون الفريق الطبي في مرمى النيران، باستمرار، نتيجة مشاكل لم يكن هو المتسبب فيها، فالعلاج يحتاج إلى حوار مجتمعي، نضع فيه النقاط على الحروف، كما يقولون، فندرس احتياجاتنا جيدا، ويكون هناك رؤية واضحة لإتاحة فرص الهجرة الآمنة، بما لا يُحدث خللا فادحا في المنظومة الطبية في مصر، بجانب دراسة سبل زيادة الخريجين الأكفاء من الكليات الطبية، ما يدعم احتياجاتنا من الموارد الدولارية، وفي الوقت نفسه لا يجعلنا عراة حال حدوث أي جائحة، لا قدر الله.
بحسب تحقيق صحفي للأستاذة مي سعودي،فإنّ نسبة الأطبّاء للمرضى محلّيًّا أصبحت 8.6 طبيب لكلّ 10 آلاف مواطن، بينما حدّدت منظّمة الصحّة العالميّة النسبة على أن تكون 23 طبيبًا لكلّ 10 آلاف مواطن. ممّا يزيد عدد ساعات العمل المقرّرة للأطبّاء لتصل إلى 96 ساعة في الأسبوع تقريبًا، ورغم هذا ربما على المسؤول أن يتفهم أبعاد مهامه، والمشكلات العامة، قبل أن يتولى المسؤولية، فحسن الإدارة المحلية، لن يحدث إلا بوضع الأمور في سياقاتها العامة، ومعرفة أين نفق في كل مجال.
حين نتأمل المشهد، فينبغي أن نتوقف عند ما كشفت عنه نقابة الأطبّاء في أبريل من العام 2022، موضحة استقالة 934 طبيبًا من العمل الحكوميّ، رغم حصولهم على شهادة طبيب حرّ من نقابتهم، وهو ما يعنى أن واحدا من كل 100 طبيب تقريبًا، قد تقدم باستقالته، وهو أمر لا يمكن غض الطرف عنه، في ظل حرص الكثير من الدول على استقبال الطبيب المصري ومعاملته بأفضل شكل ممكن، ومن بينهم بريطانيا.على سبيل المثال.
يشير تقرير للقوى العاملة في بريطانيا حول «حالة التعليم والممارسة الطبّيّة في المملكة المتّحدة» إلى ارتفاع نسبة الأطبّاء المصريّين المهاجرين إلى بريطانيا 202%، وذلك منذ عام 2017 حتّى 2021.ويوضح التقرير أنّ 435 طبيبًا مصريًّا هاجروا إلى بريطانيا في 2017، زادوا في العام التالي إلى 756 طبيبًا، ثمّ ارتفع العدد إلى 1301 طبيبًا في 2019، وفي 2020 انخفض إلى 1220 طبيبًا، ثمّ عاود الارتفاع إلى 1312 طبيبًا في 2021. وتأتي مصر في الترتيب الثالث، بعد الأردنّ والسودان، في عدد الأطباء المهاجرين إلى بريطانيا.
بكل تأكيد لقد أدار الدكتور مصطفى مدبولي الأمر بحكمة وقدم اعتذارا في اليوم نفسه للطبيبة، كما أعرب وزير الصحة، نائب رئيس مجلس الوزراء للموارد البشرية عن نقديره لجهود الفريق الطبي، مع دعوة الطبيبة وزوجها إلى لقائه، وهو أمر لم يكن يحدث قبل ذلك في مختلف الاعتداءات على الفريق الطبي، وهنا علينا الإشادة بالتحول الإيجابي في التعامل مع هذه المواقف، والتي تؤكد أن الدولة حريصة على الفريق الطبي.
آخر ما أود الإشارة إليه بين السطور، أن علينا جميعا مَهمة كبرى تتمثل في منح التقدير المعنوي على الأقل لمن يقوم على صحتنا، وأن تكون مناهجنا قادرة على الترويج للقدوة الحسنة بين أبنائنا، وليكن أمامنا دائما قول الشاعر:
«إن المعلِّمَ والطبيبَ كلاهما
لا يَنصحانِ إذا هُما لم يُكْرَما
فاصبرْ لِدائكَ إن أهنتَ طَبيبَهُ
واصبرْ لِجهلِكَ إن أهنتَ مُعَلِّما»
والسلام ختام