كاتب ومقال

كلمة ورد غطاها| الوفرة المدمرة

لا شك في أننا جميعًا سمعنا وتداولنا المقولة الشهيرة “كل شيء زاد عن حده انقلب ضده” ونستطيع أن نعدد عددًا كبيرًا من الأمثلة الدالة على صدق وصحة تلك العبارة، فعلى سبيل المثال فإن المزاح والضحك من الأمور الهامة للصحة النفسية والبدنية للفرد، ولكن في حالة زيادة جرعات المزاح عن الحد، يتحول الأمر إلى مهزلة، كما يصاب القلب بالضجر وتضيق الصدور. ففي جزء من حديث رواه أبو هريرة عن الصادق المعصوم قوله: “وإياكَ وكثرةَ الضَّحِكِ؛ فإنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ فسادُ القلبِ”. فعلى سبيل المثال، قارن بين ردة فعل الجمهور في الصالة الذي شاهد مسرحية كوميدية في ستينيات القرن الماضي بمثيله الذي يحضر مسرحية عام 2024، أو أولئك المدمنين لمقاطع التيكتوك الساخرة البذيئة، وقارن بين انعكاس هذا الكم الكبير من الهزل على حياتهم.

يقول البعض إن تلك العبارة ليست سليمة تمامًا، ويستشهد بمثال استذكار الدروس، ويقول: “هل معنى ذلك أن من يذاكر كثيرًا يحصل على درجات منخفضة مثله مثل من لم يقم باستذكار دروسه؟” والإجابة الصحيحة هي “نعم” ببساطة، لأن من يذاكر أكثر من اللازم سيصاب ذهنه حتمًا بالتشويش والارتباك، وهو ما سيظهر خلال انفراده بالأسئلة وورقة الإجابة داخل لجنة الامتحان. من يأكل كثيرًا يصاب بالبدانة، ومن ثم بالعديد من الأمراض التي تسبب الوهن والعجز، تمامًا مثلما يصاب بهما من لا يحصل على القسط الكافي من الغذاء.

الإشكالية أو التحدي يكون دائمًا في معرفة “القدر” أو “الحد” المناسب، والذي بعده تتحول الزيادة إلى نقصان، ويتحول الدواء إلى سم قاتل، ويتحول المزاح إلى غم وضيق في الصدر. والحقيقة أن هذا الحد ليس ثابتًا ولا واضحًا، بل يختلف من شخص لآخر ومن موقف لآخر ومن زمن لآخر… إلخ. ولذلك فإن كل تلك العوامل قد تجعلنا نتخطى الحد المسموح دون أن نشعر، ونجد أنفسنا في تدهور ولا ندرى لماذا، والأمثلة على ذلك كثيرة. دعنا نعود إلى المثالين السابقين، كم مرة وجدت طالبًا منهارًا متعجبًا من عدم توفيقه في الاختبار وعدم حصوله على الدرجة المطلوبة بالرغم من قيامه بالمذاكرة لساعات طويلة، أو إصابة الآخر بالاكتئاب الحاد بالرغم من كثرة المزاح والضحك.

الوفرة التي نتعرض لها هذه الأيام جراء التطبيقات والمنصات الرقمية المنتشرة عبر شبكة الإنترنت ستقودنا إلى الانهيار. أخبار زائدة عن الحد؟ شائعات زائدة عن الحد؟ جرائم ومعلومات وصور ومقاطع مسموعة ومصورة نتركها تنساب إلى العقل والوجدان، ثم نعود ونشتكي من التشتت ومن الضجر. حتى المشاهد العارية أصبحت تقتحم العيون بدون استئذان، لدرجة أن أحد أصدقائي من الشعراء تحدث إلي عن تأثير العري على مفردات الشعر الحديث، فلا حديث عن الشعر والثغر والابتسامة والحياء، وغير ذلك من المفردات التي أصبحت بنفس الوقع كما كانت في الماضي قبل أن يتعرى الملايين بلا هوادة وبلا توقف، وبالطبع بلا أي سبب أخلاقي.

هذه الوفرة مدمرة لا شك، ولابد من مراجعة الأمر والانتباه له والعمل بإيجابية. يجب الانتباه إلى الحد المناسب والالتزام بعدم تجاوزه مهما كانت المغريات أو الضغوطات، وإلا فإن الدمار سيكون هو عنوان إنسان المستقبل.

بقلم
المهندس زياد عبد التواب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى