خروجتنا

تمثال ديليسبس وأبناء بورسعيد.. هل ينتصر الأجنبي في قبره؟

3% من سكان مصر ضحايا.. و4 ملايين جنيه ذهب للاحتفال

“الشيخ البعيد سره باتع”، هكذا يقول المثل، ولعل هذا ما ينطبق على ما يدور في بورسعيد على مدار الشهور الماضية بين إعادة تمثال ديليسبس أو رفعه من مدخل قناة السويس، ليطرح السؤال جليًا: هل كان ديليسبس فعلًا صاحب فضل على مشروع القناة أم انتهازي؟

تاريخ فكرة قناة السويس:

تشير أغلب المعطيات التاريخية إلى أن أول من راودته فكرة إنشاء قناة السويس هو فرعون مصر سنوسرت الثالث، وأن أول ضربة فأس في عملية حفر القناة وقعت في أبريل من العام 1859م، وخضعت للتجربة لمدة عامين (منذ 1867)، قبل أن تُفتح رسميا يوم 17 نوفمبر 1869م. ولذلك فإن نسبة فكرة القناة إلى أجنبي لا يمكن تفسيره إلا أنه “عقدة الخواجة”

وعلى الرغم من أن أغلب كتب التاريخ تشير إلى أن المصريين القدماء هم أول من تبنى فكرة هذه القناة، إلا أن البعض قد يغفل عن ذلك أو يجهله؛ فالفرعون سنوسرت الثالث، المنتمي إلى الأسرة الثانية عشرة، هو أول من فكر في ربط البحرين المتوسط والأحمر بشق قناة السويس لتوطيد التجارة وتيسير المواصلات بين الشرق والغرب، فإن هذه القناة تجر وراءها تاريخا قديما يعود إلى عام 610 قبل الميلاد، مرت خلاله بفترات تأرجحت بين اهتمام شديد وإهمال خطير. وتكشف بعض الكتابات أن القناة امتلأت بالأتربة مما تسبب في عزل البحيرات المُرّة المجاورة عن البحر الأحمر، فقام الفرعون نخاو الثاني (نيقوس) عام 610 قبل الميلاد، بإعادة شقها لكنه لم يفلح في وصل البحيرات بالبحر الأحمر، بل توقف عند وصلها بنهر النيل فقط.

وفي عام 285 قبل الميلاد، تمكن بطليموس الثاني من إعادة الملاحة إلى القناة بعد أن تجاوز الصعوبات التي شكلت عائقا في ذلك، واستطاع حفر الجزء الواقع بين البحيرات المُرّة والبحر الأحمر، ومنذ ذلك الحين، بدأت قناة السويس تلفت الأنظار إلى دورها في التجارة والملاحة.

وفي عصور تالية، لم يكن الاهتمام بشأن القناة أقل؛ ففي عهد الرومان، أمر الإمبراطور تراجان الروماني بحفر قناة جديدة من القاهرة حتى قرية العباسة بمحافظة الشرقية، لكن مع مرور السنين أهملت هذه القناة وأصبحت غير صالحة للملاحة، ومن ناحية أخرى تباينت آراء القادة المسلمين حولها مع فتح مصر، ففي عام 641 ميلادية، أعاد الصحابي عمرو بن العاص الملاحة إلى القناة الرابطة بين البحر الأحمر ونهر النيل بعد أن أعاد حفرها، وفي عام 760 ميلادية ولأسباب سياسية، ردم الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور القناة وتعطلت الملاحة، واستخدمت في المقابل الطرق البرية.

وفي مصر الحديثة، أمر محمد علي باشا، الذي حكم مصر ما بين 1805م و1848م، بإصلاح جزء من القناة لري المنطقة الواقعة بين العباسة والقصاصين، لكن محمد علي، شك في نجاح المشروع وخشى من أثره على مصر لو نفذ كونه سيجعلها مطمعًا للساعين إلى السيطرة على شريان المواصلات العالمية، بحسب كتاب “قناة السويس و يوميات التأميم” الصادر في عام 2011 للكاتب مجدي رياض.

وبحسب مذكرات الدكتور مصطفى الحفناوي، والتي كانت من أهم الوثائق التي استند إليها عبد الناصر في تأميمه القناة، فقد تسلط ديليسبس على “سعيد” والي مصر، وكان “سعيد” غلامًا صغيرًا، وقت أن كان الرجل موظفًا صغيرًا في سفارة بلاده، ولم يكن حتى مهندسًا كما يعتقد البعض، وانتزع موافقة “سعيد” على حفر القناة، فارتبط اسمه بالليالي السود في تاريخ مصر الحديث، حيث كان ديليسبس أول من فتح الباب للقروض الأجنبية والتي تفاقمت في عصر إسماعيل، وألهبت سياط السخرة ظهور المصريين، فقضى منهم آلاف في أثناء الحفر، وخربت الخزانة المصرية بسبب نفقات القناة، والتي افتتحت للملاحة في 17 نوفمبر 1869، لتنعم أوروبا بالثراء والرفاهية، جراء تيسير حركة التجارة، وربما كان ذلك هو السبب لاحتلال بريطانيا لمصر في العام 1882، حيث دعا الخديو إسماعيل ملوك العالم وقريناتهم لحضور الحفل الذى جرى فى 16 نوفمبر 1869 وتكلف نحو 4 ملايين جنيه ذهب، ما أرهق ميزانيتها وكبلها بالديون.

ولمدة بلغت نحو 70 عامًا، عاين الشعب فيها صنوف الذل والهوان، وكان نهايتها قرار الزعيم الخالد جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس، ما أدى إلى العدوان الثلاثي على مصر 1956، ووقتها أسرع أبطال المقاومة والفدائيون إلى إسقاط تمثال ديليسبس، في رمزية لإسقاط الاحتلال. فما أغرب من يطالب الآن بأن يعاد تمثال الرجل إلى مدخل قناة السويس. في حين مات ديليسبس في بلاده محكومًا عليه في قضية فساد في قناة بنما، ووصفه مؤرخون كبار أجانب وعرب بأنه أدار أكبر عملية سخرة في التاريخ إبّان حفر قناة السويس، حيث تطلب حفرها 10 سنوات من العمل الدؤوب لأكثر من 20 ألف عامل مصري، وتدير شؤونها الشركة العالمية لقناة السويس البحرية، التي كانت تحت قبضة الفرنسيين، حسبما يشير الأطلس التاريخي لبطولات شعب بورسعيد 1956، وموسوعة تاريخ بورفؤاد للمؤرخ البورسعيدي الكبير ضياء القاضي.

3%من سكان مصر ضحوا بحياتهم:

في الوقت الذي كان فيه عدد سكان مصر 4 ملايين، توفي نحو 120 ألف عامل في مشروع قناة السويس، وهو ما يمثل نحو 3% من عدد سكان مصر وقتذاك، نسبة كبيرة للغاية، تستحق أن يظل فخرنا بأننا قدمنا هذا العدد لتحقيق حلم لطالما راود المصريين على مدار آلاف السنين، دون مبالغة، وفقًا لكتاب بالغ الأهمية اسمه “السخرة فى حفر قناة السويس” للمؤرخ الدكتور عبدالعزيز محمد الشناوى.

وبحسب موسوعة المعرفة، فقد شهدت سنوات الحفر الأولى للقناة أكبر عملية حشد للعمال فى التاريخ البشرى. وفى عام 1862 على وجه التحديد كان عدد العمال الذين يساقون زمرا إلى ساحات الحفر يتراوح ما بين 20 ألفا وبين 22 ألفا فى الشهر الواحد.. وما يزال السؤال مطروحًا: أين ذهبت كل هذه الجثث، وهل كان مصيرهم إلى المياه أم رمال الصحراء؟.. وهل بعد كل هذا يستحق ديليسبس أن نرفع تمثاله في بورسعيد أم أن نخلد شبابنا الذين فقدوا أرواهم؟ سؤال إلى المسئولين في ربوع المحروسة!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى