كاتب ومقال

رؤى التحول الاقتصادي والطاقة| التمويل الصناعي الجديد.. بداية لفصل جديد في الاقتصاد المصري؟

منذ سنوات والحديث عن الصناعة في مصر لا ينقطع لكنّ الواقع ظل بعيدا عن الطموحات، المصانع المتعثرة خطوط الإنتاج المتوقفة ورأس المال الذي يهرب بحثا عن بيئة أكثر استقرارًا، كلها مشاهد رسمت صورة قاتمة لقطاع يُفترض أن يكون العمود الفقري للاقتصاد، اليوم ومع إعلان مبادرة جديدة لتمويل المصانع وإحياء المشروعات الصناعية المتوقفة يتجدد السؤال: هل نحن أمام بداية فصل جديد من الحلم الصناعي، أم مجرد محاولة لشراء الوقت وسط أزمات متراكمة؟

اللافت في المبادرة الأخيرة ليس مجرد ضخ تمويل بل محاولة إعادة هيكلة العلاقة بين الدولة ورجال الصناعة. فالمصانع المتعثرة ليست مجرد آلات صامتة أو جدران من الأسمنت؛ إنها آلاف العمال الذين فقدوا وظائفهم وأحلام معلّقة لمنتجات كان يمكن أن تغزو الأسواق المحلية والعالمية. من هنا تأتي رمزية هذه الخطوة: إنها لا تتعلق بالمال فقط بل بإحياء الثقة في أن الصناعة المصرية قادرة على النهوض من جديد إذا وُجد الدعم الكافي والبيئة الحاضنة.

لكن هل يكفي التمويل وحده؟ التجارب السابقة تقول لا. فالمشكلة لم تكن في نقص الأموال بقدر ما كانت في غياب الرؤية والإدارة وفي تداخل البيروقراطية مع القرارات الاقتصادية حتى أصبح المستثمر يضيع وقته بين المكاتب والأختام أكثر مما يضيعه في تطوير منتجه. إذا كان التمويل الجديد سيعيد إنتاج نفس الدائرة فلن نكون أمام بداية فصل جديد بل إعادة عرض لسيناريو قديم.

من جهة أخرى فإن هذه المبادرة تأتي في لحظة فارقة: الاقتصاد المصري يعيش ضغطا شديدا بفعل خدمة الديون وارتفاع تكلفة الاستيراد وتراجع بعض مصادر العملة الأجنبية. الصناعة هنا لم تعد رفاهية أو مجالا إضافيا، بل صارت طوق نجاة. كل دولار يُستثمر في مصنع محلي يعني خفض فاتورة استيراد لاحقة وكل وظيفة جديدة تُخلق في مصنع تعني تقليل عبء اجتماعي واقتصادي عن كاهل الدولة.

ومع ذلك هناك سؤال حرج يفرض نفسه: هل التمويل الجديد سيذهب إلى من يستحق؟ هل سيُوجه حقًا إلى المصانع الصغيرة والمتوسطة التي تشكل ٨٠٪ من النسيج الصناعي المصري أم سيتكرر المشهد التقليدي حيث تلتهم الشركات الكبرى نصيب الأسد، بينما يظل الصغار يواجهون نفس العقبات؟ العدالة في التوزيع ستكون المحك الحقيقي لمصداقية المبادرة فهي التي تحدد إن كان الهدف هو التنمية الشاملة أم مجرد دعم لمراكز القوة الاقتصادية القائمة.

جانب آخر لا يمكن تجاهله هو التصدير. الاقتصاد المصري لن يتعافى إذا ظل الإنتاج موجَّهًا للاستهلاك المحلي فقط. السوق المصرية ضخمة نعم لكنها محدودة إذا قورنت بفرص التصدير. التمويل الصناعي الجديد يجب أن يرتبط بخطط واضحة لدعم دخول المنتجات المصرية إلى الأسواق الأفريقية والعربية والأوروبية وأن يرتبط كذلك بتسهيلات في سلاسل الإمداد والنقل. وإلا فإننا سنكرر أخطاء الماضي: مصانع تعمل لكن منتجاتها لا تجد طريقًا خارج الحدود.

ومع كل هذه التحديات، يظل الأمل مشروعا. ربما لأن هذه المرة تبدو مختلفة. هناك وعي متزايد من صانع القرار بأن الاقتصاد لا يمكن أن يقوم فقط على الخدمات أو الإنشاءات وأن الصناعة هي التي تصنع الاستقرار الحقيقي للعملة، وتخلق القيمة المضافة، وتبني طبقة وسطى قوية قادرة على الاستهلاك والإنتاج معا. إن إدراك هذه الحقيقة هو الخطوة الأولى، أما البقية فتعتمد على التنفيذ.

قد يكون التمويل الصناعي الجديد بالفعل بداية لفصل جديد لكن الكتابة على الصفحات لا تكفي. ما سيحدد طبيعة هذا الفصل هو الإرادة السياسية في مواجهة البيروقراطية، والقدرة على إشراك القطاع الخاص باعتباره شريكا لا تابعا والجرأة في معالجة مشكلات مثل الطاقة، الضرائب، والإجراءات المعقدة. الصناعة لا تحتاج فقط إلى قروض بل إلى بيئة تنافسية حقيقية، إلى قوانين مستقرة، وإلى إيمان بأن كل مصنع جديد هو استثمار في المستقبل وليس عبئا على الحاضر.

التاريخ يقول إن الأمم التي أرادت أن تنهض لم تفعل ذلك إلا بالصناعة. من ألمانيا بعد الحرب إلى كوريا الجنوبية بعد الفقر إلى الصين التي تحولت من قرية كبرى إلى مصنع العالم. والدرس واحد: من يزرع في الصناعة يحصد في الاستقرار والنفوذ. مصر ليست استثناءً.لكنها تحتاج إلى أن تختار المسار بوعي.

في النهاية التمويل الصناعي الجديد قد يكون مجرد مبادرة عابرة وقد يكون الشرارة التي تضيء الطريق الطويل نحو اقتصاد أكثر صلابة. ما يحدد النتيجة ليس حجم الأموال بل حجم الإرادة والقدرة على تحويل القرارات إلى واقع. والمجتمع كله ينتظر الإجابة: هل سنرى المصانع تدور من جديد لتكتب قصة جديدة أم سنظل نقرأ نفس العناوين القديمة بأسماء مختلفة؟

بقلم:
شحاتة زكريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى