كاتب ومقال

ومضة| جريمة قتل بغير قاتل

بقلم: أحمد سليمان

أحمد سليمان

(يعشق بعض البشر طعم الظلم، ويتخيلون أنفسهم مظلومين سواء في الحب أو أمور أخرى، وربما رأوا أنفسهم تعرضوا للقتل في الهوى، وبعد بيان الأدلة وتحكيم العقل يتبين أنه لا توجد جريمة قتل ولا قاتل ولا مقتول ولكن كلها خيالات مريضة).

شعر بتلك الدقات في صدره بعدما غاب عنه صداها سنوات، كثيراً ما أعد العدة للقاء لم يتم لكنه حين تغافل حدث، طالما قال ربما ألقاها وأنا أنهى بعض أوراق الدراسة أو أستلم الشهادة من الكلية أو حتى أصاب بسهم عينيها صدفة من حيث لا أدرى ولا أحتسب، وحدث نفسه: لابد أن أظهر قوياً لا يجب أن أشمتها فيّ، ولكن الأيام حين طحنته طحن الرحى نسي أن يجهز نفسه للقاء كان يظنه يوماً لن يحدث خاصة بعد أن سافرت مع زوجها إلى الخارج، واعتقد أنها لن تعود أبداً، أو هكذا تمنى، وأماني العاشقين دوماً مستحيلة.

ورغم أن الوقت بين ندائها له وانتباهه لها لم يتجاوز ثوانٍ معدودة إلا أنها مرت كسنوات عليه، عرف أنها هي بمجرد أن نطقت حرف الألف في اسمه “أحمد” عندما كان يتسوق في أحد متاجر القاهرة، حاول استجماع قواه واسترجاع كلام كان يقوله لنفسه ليتجنب الارتباك حين يراها، ولكن من ذا الذي لا يرتبك حين يرى الشمس تنزل من أعالي السماء إلى الأرض فتمنح النور حيناً وتحرق في كثير من الأحيان.

وبعد محاولات مستميتة لاستجماع قواه أجاب: آية.. مش معقول أنا أعرف إنك سافرتِ من فترة رجعتِ إمتى؟

آية: أنا برجع على طول في إجازة الصيف، محمد جوزي بيكون إجازة فبنزل أقعد مع ماما وبابا شوية، وكمان الأولاد يقعدوا معاهم، أنت أزيك.. لسة متجوزتش؟

كان أحمد يكره ذلك السؤال لأنه عهد أخذه على نفسه منذ أن تزوجت آية بألا يقرب النساء بعدها، ربما نظر إلى نفسه باستهزاء بسبب ذلك الوعد الملعون إلا أنه لم يخنه من قبل لأنه كره الخيانة منذ أن خانته آية أو هكذا ظن، وظنون العاشقين كثيراً ما يجانبها الصواب.
حاول مرة أخرى السيطرة على ارتباكه ليجيبها إجابة تقليدية اعتاد عليها رغم كرهها.

أحمد: لسة النصيب مجاش.

آية: أنت عارف أنا كنت متخيلة أنك أول واحد فينا هيتجوز.. رومانسي بقى وبتكتب شعر وكلنا كنا عارفين أنك بتحب.

أحمد: الرومانسيين مش بيتجوزوا بسهولة، بعدين اللي بيكتب شعر مش شرط يكون بيحب.

آية: ممكن بردو يكون بيحب وبيكتم.. ربنا يقدرلك الخير كله.

وأثناء الحديث سمع أحمد صوت هاتف آية يرن فأخبرته أن عليها الذهاب لاستعجال والدتها لها لأنها تجلس مع طفليها، وبعد أن صافحها لم ينته أثر اللقاء وظل واجماً لم يستطع أن يشتري الأشياء التي يريد شراءها من المتجر.

استرجع أحمد ذكرياته وأيام الشعر والهوى والقصائد التي كان ينشرها على صفحته وكان يوجهها لآية، ولكن دون أن يصرح، اكتفى بذلك واعتبر أنها من المفترض أن تعرف، ولكن ماذا كان عليها أن تفعل إن علمت حقيقة شعوره؟، سؤال لم يوجهه لنفسه إلا بعد حديثه الآن معها.

لماذا اعتبرها باعت حبه الذي لم يصرح بها سوى على جدران أبياته، لماذا نظر إليها عشر سنوات كاملة على أنها قاتلة اغتالت مشاعره البريئة التي دونها في شعره وفي كلماته، لماذا اعتزل الشعر ورفض الزواج لمجرد استعذاب دور الضحية.

لم يستطع النوم في تلك الليلة، وحاكم نفسه التي حكمت على حبيبته ظلماً وبهتاناً رغم أن جبنه هو ما حال بينه وبين التصريح لها بحب لم ترفضه أو تقبله ووقفت منه في منطقة وسطى ما بين الجنة والنار، وحتى إن رفضته ما كان هذا ليوصف أبداً بالخيانة، خيانة لم توجد أبداً سوى في خيالاته.

وبعد فشله في النوم، قام وجلس على مكتبه، واسترجع هوايته القديمة في الكتابة، تلك الهواية التي كانت كالصديق الذي كان يشكو إليه هجرها في الماضي، لكن عليه الآن تصحيح الصورة واستئناف الحكم الذي أصدره في حق حبيبته.

وكتب بعض الكلمات..
لأنه لا يوجد ذنب بغير مذنب ولا معصية بغير عاصِ ولا جريمة قتل بغير قاتل، لذلك فإن كل خطاياكِ في حقي كانت مجرد محض خيال، لقد كُتبت إليك بعد مرور كل تلك السنوات البراءة، بعد أن اكتشفت أنكِ لم تكوني حبيبتي سوى على جدران أبياتي، وأن مشاعري الساذجة وإن قتلت فلم يكن الأمر أبداً جريمة قتل بل كان انتحاراً.

وبعد مرور السنوات اكتشفت أن رحيلك عني ليس جريمة وأن عشقي لعينيك ليس صلاة ولا أشعاري كتاب مقدس، كلها أوهام أقنعت نفسي بها لأعيش في حالة من اختياري وأخلق عالماً من خيالي ليس له وجود.

واختتم كلماته بتلك الأبيات..
تلك العينان التي رسمتهما على جدران أبياتي
وظننت أن فيهما النور وظننت أن فيهما حياتي
وكتبت شعراً ساذجاً لعلي أدخل جناتك بكلماتي
وصنعت صنماً من الوهم وأبياتاً من خيالاتي
وزعمت يا حبيبتي أنك تعلمين سريراتي
وحكمت ظلماً وويل للظالم من ظلماتِ
وعلمت براءة واضحة ولكنني كذبت نظراتي
فلتقبلي عذراَ أقبح من ذنبي ومن خطيئاتي
فإن كنت ظلمتك في التفكير والذاتِ
فنفسي ظلمت وضيعت عمري وسنواتي

فرغ أحمد من الكتابة، وصالحه النوم بعد جفاء ساعات، ولأول مرة منذ سنوات طويلة ينام مرتاح البال ولا تؤرقه صورة شيطانية رسمها لحبيبته الأولى ظلمها بها لكنه في النهاية لم يعاقب سوى نفسه.

أصدر صك البراءة لجريمة لم تُرتكب سوى في مخيلته فارتاح وكأن الظلم الذي نظلمه يكبلنا ولا يقيد من نظلمهم، وقد كان لقاءه بها الذي أراد تجنبه لسنوات هو القدر الذي كتب لها حياة جديدة، وكأن الله قد نفخ فيه الروح من جديد بعد أن لفتت انتباهه حبيبته الأولى لحقيقة جلية أعماه عنها عشقه الجبان.

 

نبذة عن الكاتب

أحمد سليمان

أحد الكتاب الشباب لمنصة كلمتنا

محرر صحفي تخرج في كلية الإعلام جامعة القاهرة

صدرت له 4 كتب
منهم ديوانا شعر باللغة العربية “بلاء عينيك أطلال”
مجموعتين قصصيتين “مواسم الموت وعيادة فقدان الذاكرة”

للتواصل :

[email protected]

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى