كاتب ومقال

بائعة المناديل

( ١ )

تراقب بقلق ومشاعرها مختلطة بين اضطراب وتوتر وهى تزفر بسخط بالغ دون أن يشعر بها أو بغضبها أحد، المرة الثالثة على التوالي يتم تجاوز دورها ويحصل عليه أحد تجار “القطاعي” المهمين،
وقفت تهز ساقها بتزامن وعصبية تنتظر بفارغ الصبر إنتهاء العملية الحسابية المعقدة، حتى أتى دورها أخيرًا ووقفت أمام الحاج “منيب” بعد تأخر أكثر من ساعة..

لم يمهلها فرصة النطق والحديث، فقط عند رؤية ملامحها البريئة المختبئة خلف غبار الشارع، تحرك للداخل كأنه آلة صماء وعاد وهو يقذف بكيس المناديل الورقية أمامها ويمد يده يأخذ من بين أناملها لفة الجنيهات القديمة المهترءة بدون أي حديث أو حتى إيماءة أو مجرد شبح إبتسامة، نفس المشهد يتكرر كل مساء ويُشعرها في كل مرة أن مجهوده في تحريك فكه وخدوده الممتلئة..

حظوة لا تستحقها فتاة صغيرة مثلها لا يجنى من وراءها مكسب يستحق عناء بصق الحروف من فمه، حملت بضاعتها وعادت وهى تدندن بأحد أغنياتها المفضلة وتزيد أبياتها شطر جديد على نفس الوزن والقافية تنال فيه من منيب وهى تضحك بسعادة وتتلذذ بسهولة سبه وهى تُغني..

العمل يبدأ بعد خلو الميدان من العمال والموظفين،
بعد العاشرة تجلس مُجبرة فوق أحد الأرصفة وأمامها حصتها من المناديل، وفي الجهة المقابلة تجلس أمها “آمال” بنفس الهيئة والوضعية، من لا يعرفهم يظنهم متنافستان على بيع المناديل وإنتظار جزل العطاء في الشراء، لكنها في الحقيقة فكرة آمال بعد أشهر من التفكير ودراسة سلوك مترجلي الميدان طوال الليل وحتى الفجر..

بعضهم يستميله وضع جنيهاته بيد فتاة صغيرة والبعض الأخر يُشعل تعاطفه رؤية حزن وشجن آمال وإدعائها الشعور بالتعب والبرودة حتى في ليالي الصيف الحارة، لا ترفع بصرها عن إبنتها وتخشى طوال الوقت منها وأن تفعل تهديدها وتلقي بالمناديل بوسط الميدان وتعدو نحو شارعهم حتى تلحق اللحظات الأخيرة من سهرات صديقاتها وتلعب معهم أمام براح الجراچ..

يتبادلا النظرات ولا تعرف آمال ماذا يدور بذهن إبنتها، لو أنها تستطيع قراءة أفكارها لقفزت من مكانها ولم تتركها دون أن تُكسّر عظامها، تأقلمت منذ وقت طويل على سلوكها الخاص، كلما شعُرت بالضيق من أحد، ظلت تُغني بسرها وهى تسب من يحلو لها دون أن تُفسد الوزن أو موسيقى الأبيات الداخلية..

لماذا حملت هى إسم جدتها “حسنات” وحظت أمها بإسم أكثر سهولة وإنتشار؟!، لم ترى جدتها ولا تعرف عنها غير أنها سبقتهم في الجلوس على الرصيف وبيع المناديل، لم تتقبل أبدًا أي محاولة إفهام من أحد أن إسمها مميز وله معنى جميل، إسم قديم ولا تعرف ولا يعرف أي شخص إسم دلع له كما تفعل صديقات أمها وينادونها بـ – أمولة -..

تحدق في المارة وساقها لا يتوقف عن الإهتزاز وفمها لا يصمت عن الغناء الغير مسموع، مئات المرات ألحت على أمها أن يبحثوا عن مكان أخر غير الرصيف، تريد الخروج من حدود الميدان والهروب من رائحة الحاتي التي تجلس بجوار بابه..

في كل ليلة تنتهي آمال من بيع حصتها قبل حسنات، جلوسها بجوار محل بيع الخمور يجلب لها عشرات الزبائن الغير محتاجين للمناديل، أغلبهم يضع بيدها جنيهان وأحيانًا خمسة مقابل علبة المناديل ويبتسم بعدها براحة وسعادة ويطمئن قلبه أن الحسنات يذهبن السيئات..

الغيظ كامن بصدر حسنات وهى تنظر لأكلي الكفتة والطرب كل ليلة بغل تام، أكل الكباب لا يوقظ ضمائرهم ولا يشترون منها المناديل إلا في الضرورة القصوى، كم مرة ودت أن تدخل وتصيح بوجه الحاتي وتأمره بالتوقف عن وضع علب المناديل الكبيرة فوق طاولات المحل..

دوي سارينة سيارة الشرطة يبدد صمت الميدان وتتوقف أمام فرشة آمال، حملة من الصحة تقتحم محل الخمور ويجدوا بالمحل زحاجات متنوعة بدون فواتير شراء مختومة وخلال دقائق يتم غلق المحل ويجد صاحبه مكان له بالسيارة والعساكر يحتضنونه وعلى وجوههم علامات الزهو والشعور بالإنتصار..

بعكس ملامح آمال التي وجدت نفسها مرغمة على حمل بضاعتها والجلوس بجوار حسنات وبعد مرور ساعتين بدون بيع علبة مناديل واحدة وهى تلمح إبتسامة حسنات الواسعة وعلامات الشماتة،
ضربتها بكتفها بغضب بالغ وهى تصيح بها بغيظ،
“عَلّي صوتك وإنتي بتغني يا مزغودة”.

بقلم
أحمد عبد العزيز صالح

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى