كاتب ومقال

إبداعات كلمتنا| “كاش مايوه”

مرتها الأولى بالساحل، مشاعرها مضطربة وتشعر بالتوتر وتخفي جهلها بأبسط الأشياء بنظارة شمسية عملاقة تلتهم نصف وجهها، تتصنع في كل خطوة الإنشغال بأمر هام بهاتفها وهى تدقق ببصرها وكل حواسها في خطوات الآخرين لفهم واستعياب سلوكهم وتقليدهم فيما بعد..

فقط كل ما تفعله أن تبقى خطوة واحدة في الخلف، تتشبث بما أعدته من أسلحة دفاعية حتى لا ينكشف أمرها أمام أحد ويعرفوا أنها لم تزور الساحل من قبل، خصوصًا تلك الشواطئ صانعة الضجة بما فيها من مظاهر للتحرر وتقليد الغرب..

إدعت أمام رفاقها الجدد أنها معتادة على تلك الأماكن منذ سنوات، رغم أنها لا تذكر متى كانت أخر مرة ذهبت فيها للشاطئ منذ زواجها، بالكاد تذكر تلك المرة التي صحبها فيها زوجها لمدة يومان فقط لبورسعيد، وكان هدفه الأساسي شراء بعض الملابس المستعملة بسعر زهيد..

أسلحتها الدفاعية رغم وهنها الشديد، إلا أنها حتى لحظة وصولهم للكبائن الفارهة، كانت ناجحة في تأكيد كذبها وقصصها المُختَلقة، لون نحاسي لشعرها الأسود بالأساس، بنطال جينز ضيق ويكشف نصف سمانتها وقميص بياقة عالية يؤكد امتلاكها أنوثة واضحة تحت قماشه الخفيف..

هيئتها الجديدة تجعل من الصعب على أحد معرفتها بسهولة عند النظرة الأولى أو الثانية أو حتى العاشرة، يجب عليه أن يقترب وتخلع نظارتها ويحدق فيها حتى يعرف أنها رضوى، غيّرت هيئتها من الخارج، مثلما تحاول بالمثل بتغيير الداخل الكامن بين ضلوعها..

طلاقها من زوجها عامر لم يكن مجرد طلاق، كان ثورة تمرد وانتفاضة غضب ضد كل حياتها الفائتة، تريد نكران تلك السنوات ومحوها بتسجيل ذكريات جديدة وحياة مختلفة، تمحي بها سنوات طويلة تحت سطوة عامر، كأنها سجين عاش لسنوات في قبو مظلم تحت الأرض بلا رفيق أو ونيس..

خلعت ملابسها القديمة وأفكارها الموضوعة برأسها بسطوة ورغائب عامر وبدلت كل ذلك بأن أطلقت لشعرها الحرية في قبول مداعبة الهواء، ولملابسها كي تُعلن للجميع من يعرفها ومن لا يعرفها، أنها جميلة وملفتة وذات قوام بديع، وقع باليانصيب من حظ عامر..

تنهدت بشجن أمام البحر وهى تبحث عن أكبر قدر ممكن من استنشاق هواء الحرية برائحة اليود المبهجة، البحر به بهجة تنسي الأحزان وتداوي الأوجاع، لكن إن طال التأمل والوقوف، انقلب السحر على الساحر وتحول البحر بتلاطم أمواجه، لباعث سمج للشجن والذكريات..

مشاهد شجارها مع عامر تتجسد أمامها، وتتذكر عذابات حياة بائسة مع شخص كسول عديم الطموح متسلط ولا يعرف للبهجة عنوان، إنتزعت حريتها بألم ومعاناة كمن ينتزع قطعة قطن من بين الأشواك، تنازلت عن كل حقوقها وحتى عن صغارها من أجل تلك الحرية..

كانت على استعداد تام لدفع أضعاف كل ذلك من أجل الهروب من سجن عامر اللعين، لم تستحق زوج مثله من البداية، كانت تعرف ذلك وتكتمه بقلبها حتى رأت منير وعرفت معنى الشياكة والذوق والرقي ومعنى أن تتعامل مع رجل براق بأعين لامعة ورائحة جميلة وطموح يظهر في كل حرف ينطق به أو كل فعل يقوم به مهما كان صغير..

منير هو فتى أحلامها الذي بحثت عنه كثيرًا حتى استيقظت ذات يوم وهى بفستان الزفاف الأبيض وبجوارها عامر بملامح وجهه العابثة وحديثه الخالي من أي نضرة أو بريق، فقط مجرد حياة.. تأكل وتشرب وتنام، ضاعف سنوات عمرها من شدة كئابته وقائمة الممنوعات والمحرمات..

لم يكن على لسانه حيال كل شئ غير جملة واحدة ثابتة “لا يصح وغير مقبول” كان يبالغ في الحفاظ عليها حتى شعرت أنها سجين في سجن قمئ ومظلم اسمه عامر..

صوت الضحكات ينتشلها من ذكرياتها ويعيد البحر لنشر رائحة البهجة وهى ترى رفيقاتها يقتربوا منها ومعهم منير بإبتسامته الساحرة وعيناه اللامعة، جذبوها لرؤية الكابينة من الداخل وتبديل ملابس السفر وبدء المرح والانطلاق..

الشاطئ مبهر وصوت الموسيقي ينبعث من كل ركن يداعب مشاعرها ويعدها بوقت مبهج وسعيد، وقفت بحجرتها مترددة مضطربة لا تعرف ماذا ترتدي، بالتأكيد لن ترتدي مايوه، أقسمت لنفسها على ذلك
رغم رغبتها في الإنتقام من عامر بفعل الانطلاق الغير محدود، إلا أنها به وبغيره لا تستطيع فعل ذلك..

استطاعت التخلص من عامر، لكنها لم تستطع التخلص من خجلها، ارتدت بلوزة نظيفة وبنطال وفوقهم كاش مايوه أبيض اللون، خرجت لهم وهى مبتسمة متوهجة مستعدة للانطلاق..

فقط حدقوا فيها بصمت للحظات ثم لمحت منير يغمز بعينه لإحداهن ويهموا كلهم للخروج، خطوات بسيطة وأرهقتها أشعة الشمس لتكتشف نسيان نظارتها الشمسية، استأذنت منهم وعادت لجلبها، دقائق ثم لحقت بهم وهى لا تعرف أين ذهبوا، مشت يمينًا ويسارًا حتى لمحت منير يقف من صاحبة الغمز..

اقتربت منهم من الخلف تريد اثبات تحررها وقدرتها على المزاح، بخطوات حثيثة وهى تريد مداعبتهم، على بعد خطوتين تجمدت مكانها كالتمثال وهى تسمع حوارهم،
– لا أعرف ماذا يعجبك في هذه الجاهلة الريفية
ألم تري كيف لا تعرف كيف ترتدي الكاش مايوه ولا تعرف عن الذوق شئ؟

ضحك منير بقهقهة عالية وهو يضربها بكتفها مداعبًا،
– لا يهمني إن كانت تعرف كيف ترتدي الكاش مايوه أو لا، كل ما يعنيني ويهمني أن تدعني أخلعه عنها وأتذوق ما تمنيته منذ وقت طويل، وها هو الوقت حان لتناول تلك الوجبة المجانية..

ارتفع صوت ضحكهم من جديد بنفس اللحظة التي ارتفع بداخلها صوت عامر وهو يصيح بها بغضب ووعيد “لا يصح وغير مقبول”، صوت عامر يرتفع ويرتفع وكلما على صوته بداخل عقلها كلما تراجعت بظهرها للخلف وهى تبكي مرتعبة وتخشى النظر ورائها، تتخيل منير يعدو خلفها وقد تحولت ملامحه لملامح مفزعة ونبتت له أنياب مفترسة..

لملمت أشياءها بفزع بالغ ثم انطلقت تعدو بلا توقف، لا تعرف إلى أين تعدو، هل تعود لسجن عامر المظلم الخالي من نزوات الشواطئ، أم تعود لشئ آخر لا تعرفه بعد، فقط تعرف أن بداخلها رغبة عارمة للعدو والانطلاق بعد أن تركت الشاطئ وتركت الكاش مايوه مُلقى على أرض الكابينة.

بقلم
أحمد عبد العزيز صالح

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى