“إن العلم والعمل هما السلاحان اللذان بهما تُبنى الأوطان وتُزال الصعوبات”، لخصت هذه المقولة، الفلسفة التي انتهجها علي مبارك في مراحل حياته ليتحول فيما بعد إلى أحد أبرز رواد النهضة في مصر خلال القرن التاسع عشر، وهو الذي سخر حياته لإرساء قواعد التحديث والبناء في مصر، حيث وضع نصب عينيه تطوير البنية التحتية، وتوسيع التعليم التقني، وتنظيم المدن، وخلق منظومة شاملة من الإصلاحات.
بفضل إصراره على الاستفادة من العلم والمعرفة، ترك علي مبارك إرثًا هندسيًا ومعماريًا يُعتبر حجر الأساس لما شهدته مصر من تقدم حضاري وعمراني في تلك الحقبة.
نشأة بسيطة
وُلد علي مبارك في قرية برنبال بمحافظة الدقهلية عام 1823، في أسرة ريفية متواضعة، حيث تلقى تعليمه الأساسي في الكتاتيب، ما أكسبه إلماماً بالقراءة والكتابة وحفظ القرآن.
وبفضل نبوغه، تمكّن من الانتقال إلى القاهرة لمتابعة دراسته في مدرسة القصر العيني، ثم التحق بمدرسة المهندسخانة، أول مدرسة هندسية في مصر، وأظهر تفوقًا ملحوظًا في الرياضيات والعلوم الهندسية، مما ساهم في اختياره لبعثة دراسية إلى فرنسا.
وفي فرنسا، اطلع علي مبارك على نظم التعليم والبنية التحتية المتقدمة، وأثرت هذه التجربة على أفكاره الإصلاحية التي عاد ليطبقها في مصر، مؤسسًا للتعليم التقني ومحدثًا للبنية التحتية.
ترعة الإسماعيلية
يُعتبر مشروع ترعة الإسماعيلية من أهم إنجازات علي مبارك في الهندسة، حيث كانت هذه القناة بمثابة شريان حياة جديد لمصر.
وُضعت بهدف نقل المياه العذبة من النيل إلى قناة السويس لدعم حركة التجارة وري الأراضي الزراعية المحيطة، حيث ربطت بين النيل وبحيرة التمساح، ما أدى إلى ازدهار المنطقة ونمو مدينة الإسماعيلية، بحسب ما أورده الكاتب جرجي زيدان في كتابه “تاريخ مصر في عهد إسماعيل باشا“.
ويصور علي مبارك أهمية ترعة الإسماعيلية، وأثرها في تطور مدينة السويس، في “الخطط التوفيقية“، بقوله: “ومن أكبر أسباب عمارة مدينة السويس، وصول مياه النيل إليها، من الترعة الإسماعيلية، التي أنشئت في عهد الخديوي إسماعيل. وجعل فمها من بولاق مصر بالقاهرة ومصبها في البحر الأحمر، عند مدينة السويس. فجرى هناك مياه النيل، صيفاً وشتاءً. فتبدل، بذلك، جدب تلك المنطقة خصباً، وأحيا كثيراً من أراضيها. فوجدنا، هناك، حدائق ذات بهجة، فقد زُرِع على جانب الترعة القمح والشعير والبرسيم، وأنواع كثيرة من الخضر“.
مشروع تنظيم القاهرة
أدرك علي مبارك الحاجة لتنظيم العاصمة القاهرة على الطراز الحديث، ووضع خطة لتوسيع المدينة تتضمن شوارع واسعة، ومناطق خضراء، وأماكن عامة.
ومن أبرز إنجازاته في هذا المشروع حديقة الأزبكية، التي أنشأها لتكون أول حديقة عامة للمصريين، وتعكس توجهه نحو توفير أماكن ترفيهية لكل فئات المجتمع، ما أسهم في تحسين جودة الحياة وترك بصمة واضحة على المشهد الحضري للقاهرة.
إنشاء المدارس الهندسية
لم يقلل علي مبارك، من أهمية التعليم التقني لتحديث مصر، لذا أنشأ مدرسة المهندسخانة، التي هدفت لتخريج كوادر قادرة على النهوض بمشروعات البنية التحتية.
أسهمت المدرسة في تعليم جيل جديد من المهندسين الذين شاركوا في استكمال مشروعات الهندسة والري، مما ساهم في استدامة التنمية.
تطوير نظام الري
لم يتوقف علي مبارك عند مشاريع التنظيم الحضري، بل كان له دور بارز في تطوير نظام الري من خلال إنشاء شبكات متطورة وتنظيم توزيع المياه.
ساعدت هذه الجهود في تحسين الإنتاج الزراعي، وحققت اكتفاء ذاتيًا زراعيًا واستدامة للموارد المائية، ما جعل من نظام الري أحد إنجازاته الهندسية البارزة.
ترك علي مبارك إرثاً عميقاً في مجالي الهندسة والعمارة في مصر، من خلال مشاريعه الهندسية والإنشائية، والتي أسهمت في تطوير البنية التحتية، وتحديث التعليم، وإحداث تنمية شاملة، وبفضل رؤيته الريادية، استطاع علي مبارك أن يُحدث نقلة نوعية، تاركاً بصمةً ما زالت تأثيراتها باقية في المجتمع المصري.
“الخطط التوفيقية”
أحد أهم كتب علي مبارك، ويعد مرجعاً رئيسياً لفهم تاريخ وجغرافيا مصر في القرن التاسع عشر.
ويتناول الكتاب تفاصيل دقيقة عن المدن والقرى المصرية، وأحوالها الاجتماعية والاقتصادية، وأصولها التاريخية، كما يشمل وصفاً شاملاً للمواقع، والشوارع، والمؤسسات العامة في القاهرة والمدن الكبرى.
في أحد فصول الكتاب، يتحدث علي مبارك عن أهمية التنظيم الحضري، ويصف بأسلوبه الخاص كيف كانت شوارع القاهرة ضيقة ومعقدة، وكيف كان يرى أن توسيع الشوارع وتنظيمها سيحسن من حركة المرور ويخلق مساحات مفتوحة تعكس طابع المدينة المتجددة.
وقد كتب قائلاً: “لقد كان الواجب على الحكومة أن تنظر في شؤون البلاد والعمران، وأن تسعى لجعل مصر دولة عصرية، لا تخلو شوارعها من ترتيب ونظام… فإن العمران أساس كل حضارة وتقدم”.
اقرأ أيضا: طه حسين عبقرية لا تغيب.. شاكس قانون العمى بسعة الخيال