كاتب ومقال

رؤى التحول الاقتصادي والطاقة| إنقاذ الاقتصاد من الفجوة الدولارية.. بين الواقع والممكن

حينما نتحدث عن الفجوة الدولارية.فإننا لا نتحدث فقط عن أرقام مجردة تعبر عن عجز بين المتحصلات والمدفوعات، بل عن معضلة حقيقية تضغط على الاقتصاد المصري تؤثر على قيمة الجنيه وترفع منسوب القلق في الأسواق. المشكلة ليست وليدة اليوم.لكنها تفاقمت في السنوات الأخيرة لتصبح أشبه بثقب أسود يبتلع فرص النمو، ويضاعف التحديات التي تواجه صانع القرار الاقتصادي.

الأزمة تتجلى في اتساع العجز في ميزان المدفوعات وتراجع مصادر العملة الأجنبية، بدءا من الصادرات والسياحة وصولا إلى تحويلات العاملين بالخارج التي أصبحت تواجه ضغوطا غير مسبوقة. كل ذلك في مقابل طلب متزايد على الدولار سواء لاستيراد السلع والخدمات، أو لسداد الالتزامات الدولية، أو حتى لأغراض المضاربة التي باتت تُشكل جزءا من المشهد الاقتصادي اليومي.

لكن هل نحن أمام أزمة مستعصية؟ أم أن هناك حلولا عملية يمكن أن تضيق هذه الفجوة وتعيد التوازن المفقود؟

المفتاح الأول لأي حل حقيقي يكمن في زيادة موارد النقد الأجنبي. وفي هذا السياق لا بد من إعادة النظر في منظومة الصادرات ليس فقط بزيادة كميتها، بل بتحسين نوعيتها، والبحث عن أسواق جديدة، وتقليل الاعتماد على المواد الخام المستوردة في الصناعات المحلية. الدول الناجحة في سد العجز الدولاري لم تفعل ذلك فقط بزيادة صادراتها، بل بضبط وارداتها، وتحقيق قيمة مضافة أعلى في إنتاجها، وهو ما يجب أن يكون هدفًا استراتيجيًا للسياسة الاقتصادية المصرية.

قطاع السياحة رغم كونه أحد أكبر مصادر العملة الصعبة، ما زال يواجه تحديات تتعلق بالترويج، والبنية التحتية، والقدرة على المنافسة في سوق عالمي شديد التعقيد. الاستثمار في السياحة لا يجب أن يكون مجرد حملات دعائية ، بل رؤية متكاملة تستهدف زيادة الإنفاق السياحي وليس فقط عدد الزوار. السياحة الفاخرة، والسياحة العلاجية، وسياحة المؤتمرات، كلها مسارات تحتاج إلى تطوير حقيقي لتتحول إلى مصادر مستدامة للنقد الأجنبي.

أما تحويلات المصريين في الخارج ، فقد تأثرت بعدة عوامل منها الفجوة بين السعر الرسمي وغير الرسمي للدولار، وعدم وضوح السياسات المالية في بعض الفترات. إعادة هذه التحويلات إلى القنوات الرسمية يتطلب سياسات جاذبة، مثل تقديم حوافز مصرفية حقيقية وتسهيل إجراءات التحويل، والأهم من ذلك تعزيز الثقة في استقرار سعر الصرف، بحيث لا يشعر المصري بالخارج بأنه يخسر جزءًا من أمواله لمجرد أنه يرسلها عبر القنوات الرسمية.

على الجانب الآخر ، لا يمكن تجاهل الحاجة إلى إصلاح هيكلي في السياسات المالية والنقدية. المضاربة على الدولار ليست ظاهرة معزولة ، بل نتيجة طبيعية لعدم وجود رؤية واضحة لسعر الصرف وغياب آليات رقابية فعالة على الأسواق. الشفافية في إدارة السياسة النقدية، وإعلان توجهات الحكومة بوضوح ، هما عنصران أساسيان لاحتواء التقلبات وتقليل الطلب غير الضروري على الدولار.

الاستثمار الأجنبي المباشر هو جزء آخر من المعادلة. مصر لديها فرص هائلة لجذب رؤوس الأموال ، لكنها بحاجة إلى مناخ استثماري أكثر مرونة ، وإصلاحات تشريعية تجعل الدخول إلى السوق المصري أقل تعقيدا. المستثمرون لا يبحثون فقط عن الحوافز بل عن استقرار القوانين ، وسرعة الإجراءات ، وحل النزاعات بشكل واضح وعادل.

لا يمكن الحديث عن سد الفجوة الدولارية دون التطرق إلى التصنيع المحلي. استيراد السلع الوسيطة يمثل جزءا كبيرا من فاتورة الواردات، وإذا لم يكن هناك بديل محلي حقيقي فإن العجز سيظل قائما مهما ارتفعت الصادرات. دعم الصناعات التحويلية، وزيادة الاعتماد على المواد الأولية المحلية، وتقليل استيراد المنتجات الاستهلاكية غير الضرورية، كلها خطوات لا غنى عنها لتحقيق التوازن المطلوب.

في النهاية سد الفجوة الدولارية ليس مجرد معركة أرقام بل معركة ثقة. الاقتصاد القوي ليس ذلك الذي يمتلك أكبر احتياطي نقدي، بل الذي يستطيع توليد تدفقات نقدية مستدامة، ويمتلك سياسات مرنة تتكيف مع المتغيرات. التحدي أمام مصر اليوم ليس فقط في زيادة مواردها الدولارية، بل في إعادة بناء نظام اقتصادي أكثر كفاءة، يضمن أن لا تتكرر هذه الأزمة كل بضع سنوات، ويضع أسسًا حقيقية للاستقرار على المدى الطويل.

بقلم:
شحاتة زكريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى